لم تكن مصادفة زمنيّة أن تنعقد قمة البحرين لإطلاق الشقّ الاقتصادي في «صفقة القرن» في اليوم نفسه لإنعقاد أوّل قمّة أمنيّة ثلاثيّة من نوعها في القدس بين مستشاري الأمن القومي الروسي والأميركي والإسرائيلي.
 

في قمة البحرين كان من المفترض طرح الإغراءات الماليّة لتعبيد الطريق أمام التنازلات المؤلمة للفلسطينيين وأمام بدء مراسم التطبيع الرسميّة بين إسرائيل والعالم العربي.

وفي قمة القدس كان الهدف الأساس البحث في إعادة ترسيم نفوذ إيران في المنطقة التي إصطُلِح على تسميتها «الهلال الشيعي»، وبالتالي الإستعانة بالدور الروسي المتعاظم لإعادة ترتيب الوضع على الساحة السوريّة.

لكن ما لم يكن بالحسبان أن تتزامن هاتان القمتان بتصاعد التوتر بين واشنطن وطهران الى الذروة وسط عجز إميركي عن الرد على إسقاط طهران لطائرة التجسس الأميركية، و»نفض يديها» من مهمة حماية الملاحة النفطيّة في مضيق هرمز. ولكن هذه الملفات الثلاثة مرتبطة باستحقاقين كبيرين لا بد من إنتظارهما:

ـ الأول، ويتعلق بالإنتخابات الإسرائيلية والأهم شكل الحكومة المرتقبة. وبالتالي يصبح السؤال الأهم: هل سيعود بنيامين نتنياهو الى الحلبة السياسية الإسرائيلية كأقوى لاعب وسط ملفات قضائية فُتحت في وجه زوجته وأخرى تحوم فوق رأسه؟
وإذا ما حقق فوزاً جديداً فأيّ مشروع سياسي جديد سيحمله والذي سيحدّده التحالف الذي ستقف عليه الحكومة الموعودة؟

ـ الثاني، يتعلق بالإنتخابات الرئاسيّة الأميركية والنزاع العنيف الدائر حولها، والنصيحة التي أسداها الفريق الإنتخابي لدونالد ترامب والتي تقول بعدم تفرّغ الرئيس الأميركي سوى لحملته الإنتخابية، وبالتالي الإبتعاد عن المشكلات ومحاذرة الغرق في المستنقعات، خصوصاً على صعيد السياسة الخارجيّة وسط إخفاقات أربعة حتى الآن: كوريا الشمالية، فنزويلا، إيران و»صفقة القرن».

وربما هذا ما يفسّر الموقف العجيب للبيت الأبيض بأن تتولّى الدول المستوردة النفط الخليجي مثل الصين واليابان حماية شحناتها النفطيّة. ذلك أنه ما يزال يفصلنا عن موعد إجراء الإنتخابات الأميركيّة أكثر من 16 شهراً. والفراغ الذي يُمكن أن تُخلِّفه واشنطن على الرقعة الدوليّة هنالك مَن يلهث لملئه.

تاريخياً، شكّل نفط الخليج مصلحةً أميركية إستراتيجيّة أولى، كان الإتحاد السوفياتي يُدرك أنّ الإقتراب من منابع نفط الخليج قد يفتح حرباً عالميّة ثالثة، وكانت إحدى مهمات تركيا وإسرائيل الوقوف سداً عسكرياً في وجه أي طموح عسكري سوفياتي.

ولكن ومع إكتشاف النفط الصخري تراجعت أهمية نفط الخليج من الضرورة القصوى الى الضرورة، أي درجة واحدة فقط. صحيح أن واشنطن لم تعد تخشى افتقادها الطاقة كما حصل عام 1973 مع وقف الملك فيصل ضخ النفط الى الأسواق الأميركية والذي قتل فيما بعد، لكن التحكُّم الأميركي بمنابع نفط الخليج يعني التحكُّم بشرايين إقتصاد الدول الكبرى والتأثير الأميركي على دول الخليج الفتية.

وقول ترامب إنه لا ينبغي التعويل على الجيش الأميركي لضمان حرية الملاحة ليس كلاماً حقيقياً بمقدار ما أنه موجّه للصين، وايضاً للإعلان بطريقة غير مباشرة عن عجزه الآن لمقارعة إيران والتورط في نزاع معها. ولكن ماذا لو اندفعت الصين وقرّرت التحرك لضمان تأمين نفطها كما أعلن ترامب نفسه؟ ماذا لو أرسلت قطعاً حربيّة لحماية سفنها وتفاهمت مع طهران؟ ووفق هذه الصورة فإنّ الآمال التي كانت عقدت على مؤتمر البحرين تراجعت كثيراً.

فالمنطقة لا تبدو مهيّأة والتوقيت ليس ملائماً، والإنجاز الوحيد ينحصر بفتح أبواب التطبيع مع إسرائيل. صحيح أنه قيل أنّ اسرائيل لن تشارك بوفد رسمي، لكنّ الجنرال يوآف بولي موردخاي مثّل اسرائيل وهو منسّق أنشطتها في الضفة الغربية وقطاع غزة والذي أنهى مهماته قبل بضعة أشهر فقط. وتجوّل صحافيون اسرائيليون في البحرين بحرية، كذلك فعلت رئيسة الوزراء السابقة تسيبي ليفني.

وقد تكون صحيفة «الغارديان» البريطانية أفضل مَن وصف المؤتمر حين قالت: «واشنطن تروِّج للوهم في الشرق الأوسط وليس لصفقة، فالجانب الاقتصادي جاء هزيلاً وبائساً وغريباً في الوقت نفسه». 

وفي القمة الأمنية التي عُقدت في القدس جاء التأكيد الثاني حول عدم نضج الظروف في الشرق الأوسط. صحيح أنّ روسيا باتت تملك تأثيراً كبيراً في سوريا، لكنه ما يزال دون القدرة على إخراج إيران، وبدت محشورة ما بين مصالحها مع إسرائيل وايران في الوقت عينه. هي خاطبت اسرائيل عندما قالت إنها منشغلة مع ايران في محاربة الإرهاب في سوريا، وخاطبت ايران حين قالت إنها ملتزمة أمن اسرائيل وبوجود مليوني يهودي روسي في اسرائيل؟

ووفق ما تناقله ديبلوماسيون فإنّ روسيا وافقت على حماية أمن إسرائيل من خلال إعادة تأمين المنطقة الأمنيّة جنوب دمشق، حيث عدّد مستشار الامن القومي الاسرائيلي وجود نحو عشرين موقعاً لـ»حزب الله» في المناطق القريبة من الحدود.

لكنها تساءلت عبر رئيس الأمن القومي الروسي عن علاقة أمن إسرائيل بالغارات التي تنفذها إسرائيل على مواقع إيرانية شمال سوريا. وعندما قيل له أن إيران تستخدم الممرات البرية في الشمال السوري لتزويد حزب الله الصواريخ، قيل ان المسؤول الروسي ردّ واعداً برقابة أفعل. وتردد أن اللقاء الذي سيجمع ترامب ببوتين بعد ايام على هامش اعمال قمة الدول العشرين في أوساكا اليابانية سيتطرق لذلك ايضاً. ولكن لروسيا مطالب لها علاقة بالأكراد في شرق الفرات حيث المنطقة الغنيّة بالنفط، وبالوضع في ادلب والتعقيدات مع تركيا. وقيل ايضاً أنّ روسيا لفتت الى الإشارات الجيدة التي أرسلها «حزب الله»، خصوصاً في موضوع ترسيم الحدود البريّة والبحريّة اللبنانية، والذي سيبدأ خلال أسابيع على رغم من كل ما يُقال. فـ»حزب الله» عزّز نفوذه السياسي في لبنان بعد الإنتخابات، والمفاوضات ما كانت لتحصل لولا المرونة التي أبداها. صحيح أنه تلقى ضمانات بأن لا تتحول هذه المفاوضات في لحظة ما الى مفاوضات سياسيّة تشكّل تكملة لمسار التطبيع الذي إنطلق قطاره، لكن الأزمات في المنطقة وخصوصاً مع إيران كبيرة وخطيرة وهو عمد الى الفصل بينها وبين المصالح النفطية البحرية. 

في اختصار ظروف المنطقة لم تنضج بعد، وربما لن تنضج قريباً، والمفتاح بيد واشنطن وطهران.