هناك طبخة على النار في القدس، أقطابها رؤساء أجهزة الأمن في إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا. الهدف من الطبخة تعطيل الجناح الغربي لإيران في الشرق الأوسط (سوريا ولبنان وغزة)، فيما يتكفّل الأميركيون بتعطيل الجناح الشرقي في خليج هرمز. والعرض المطروح على الرئيس فلاديمير بوتين هو أن «يبيع» إيران لـ»يشتري» الأسد ومكاسب أخرى، منها جورجيا كما يتردَّد. فهل سيفعل؟ وإذا تمَّت الصفقة في سوريا، أي سيناريو يُتوقع في لبنان؟
 

الكماشة الأميركية- الإسرائيلية حول إيران تشتدّ. وللمرة الأولى، تتزامن الخطوات التصعيدية: عرض أميركي للقوة في الخليج، تشديد للعقوبات على إيران والتنظيمات الحليفة لها وأبرزها «حزب الله»، ضربات إسرائيلية متلاحقة لمواقع إيرانية في سوريا، سحب أي قوة حليفة لإيران من منطقة الحدود السورية مع إسرائيل، ضرباتٌ على «حماس» في غزّة.

واضح أنّ هذا الضغط يتزامن مع إطلاق الخطوات التمهيدية من «صفقة القرن» في البحرين، بتشجيع من المملكة العربية السعودية وحلفائها العرب. وثمة مَن يعتبر أنّ الضغوط المتزامنة على إيران منسّقة لتؤدي هدفاً أساسياً هو تعطيل أي محاولة تقوم بها، مباشرة وعبر حلفائها، بهدف أن «تخردق» التسوية المطروحة وتفرض نفسها شريكاً يحظى بالمكاسب في أي معادلة شرق أوسطية جديدة.

بالنسبة إلى إسرائيل، هناك سقف لحدود النفوذ الإيراني «المسموح به». لا مشكلة لها مع النظام الإيراني. فقط هي تريد إبعاده عن حدودها والدول العربية المحاذية لها، والتي تطمح إسرائيل إلى أن تبقى ضمن دائرة نفوذها العسكري، وهي: مناطق السلطة الفلسطينية، الأردن، سوريا ولبنان.

وقد خرج مستشار مجلس الأمن القومي الأميركي جون بولتون من الاجتماع أمس بكلام واضح: «نريد الجلاء الكامل لإيران والميليشيات الحليفة لها من سوريا». وهذا هو مغزى الصفقة المطروحة على الشريك الروسي في اللقاء، نيكولاي باتروشيف.

وحتى اليوم، وعلى رغم التحالف الوثيق الذي يربط موسكو بطهران، فإنّ الروس اعتمدوا سياسة واقعية. وعندما قرّروا التدخّل عسكرياً لحماية نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، أبرموا اتفاقاً مع إسرائيل يقضي بـ»فكّ الارتباط» بين الجانبين في سوريا، منعاً لأي تشابك.

بل إنّ الروس أخذوا على عاتقهم إبعاد «حزب الله» عن الحدود في الجولان. وبالفعل، يلتزم الروس جانب المتفرّج عندما تقوم إسرائيل بضرب المواقع التي تسيطر عليها إيران في سوريا. فالأميركيون والإسرائيليون يثقون في أنّ موسكو هي الطرف المثالي لضبط الوضع في سوريا، وأنّها تعرف حدودها. ولذلك، كان واضحاً تأكيد باتروشيف على التزام موسكو مبدأ التوازن.

صحيح أنّ موسكو حريصة على أمن سوريا كدولة حليفة، لكنها أيضاً حريصة دائماً وبشكل مؤكّد على أمن إسرائيل. فلا جدال في أنّ هناك قرابة مليوني مواطن روسي، يهودي، هم اليوم مواطنون إسرائيليون، ولا بدّ أن يحظوا برعاية الحكومة الروسية أيضاً.

ولكن، في المقابل، يبدو الروس حريصين على التحالف الوثيق مع طهران. وأكّد بوتين في أوقات سابقة أنّ روسيا «لا تبيع» حلفاءها. وعادةً، يلتزم الروس بوعودهم للحلفاء. ولذلك، ليس متوقعاً أن ينقلبوا على الإيرانيين في سوريا ويطعنوهم في الظهر. إلّا أنّ شيئاً ما بات محسوماً، وهو إنهاء «فائض النفوذ» الإيراني هناك، ووضع الأنشطة الإيرانية تحت المراقبة الروسية والسقف المرسوم.

في الخلاصة، لن يكون الإيرانيون أصحاب الكلمة الأولى في نظام الأسد، بل روسيا. وفي عبارة أخرى، سيحكم في دمشق «الأسد الروسي» لا «الأسد الإيراني». أما الإيرانيون فستكون لهم حصتهم من الكعكة السورية كحلفاء قدّموا تضحيات، خصوصاً في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.

لكن «الحرس الثوري» الإيراني والتنظيمات الحليفة كـ»حزب الله» سيتوقف نشاطها مع تقدُّم الحلّ السياسي الذي ستشارك فيه كل القوى في الشرق الأوسط. ولن يكون دور إيران في سوريا أكبر من دور تركيا أو المملكة العربية السعودية. وأما القرار الأساسي فسيكون في يد موسكو.

ولكن، هل الصفقة المطروحة بين «الثلاثي» الأمني الذي اجتمع في القدس، والقاضية بإبقاء الأسد مقابل إخراج إيران، تعني تعويم دور الأسد في سوريا ككل؟ أي هل ستتمكن روسيا من إعادة نفوذه إلى ما كان عليه قبل العام 2011؟

وهل سيعني ذلك إعادة الاعتبار إلى «طموحاته التوسعية» في لبنان والأراضي الفلسطينية ومناطق أخرى؟ وتحديداً، هل سيستعيد الأسد عناوين محاربة الإرهاب ليعاود الإمساك بالوضع داخل سوريا وبعض دول الجوار؟

يعني ذلك، هل يمكن للصفقة التي ستؤدي إلى تثبيت النظام أن تعيد لبنان إلى ما قبل 2005، عندما كان الأسد يرعى الوضع اللبناني بتغطية إقليمية ودولية؟

المطلعون يستبعدون ذلك، لأنّ المعطيات باتت مختلفة. فالروسي صاحب القرار المباشر في سوريا لن يجد مصلحة في ذلك. كما أنّ التغطية الدولية للحكومة المركزية في لبنان ازدادت قوة. ومع بروز المصالح الاستراتيجية المواكبة للتسويات الكبرى، اكتسب لبنان موقعاً مميزاً. وعلى الأرجح، لن تسمح الولايات المتحدة بإضعاف السلطة اللبنانية، فيما هي تكرِّس حضورها في لبنان على مختلف المستويات. ويعرف الروس ذلك ويلتزمون حدودهم.

ولكن، على الأرجح، لن يكون «حزب الله» هو نفسه في هذه الحال، وسينضوي في تسوية وطنية كبرى، تحت عنوان «الاستراتيجية الدفاعية»، تمنحه ضمانات يبحث عنها، لكنها ستمنح الآخرين ضمانات مماثلة. فسوريا ستتغيَّر إذا خرجت إيران وبقي الأسد، ولا يمكن للبنان إلّا أن يتغيَّر معها.