يعيش لبنان تنافساً صامتاً بين مختلف مكوناته وقواه، على إيقاع مسار صفقة القرن. لن يكون لبنان بمنأى عن تداعيات هذه الصفقة. وبعض الأطراف يراهن عليها إلى حدّ بعيد، للحصول على مكتسبات ثمينة. صحيح أنه تم رفض المشاركة في مؤتمر البحرين، بسبب عدم مشاركة السلطة الفلسطينية فيه. لكن الاتفاق على هذا المبدأ، لا يلغي وجود اختلافات عديدة بين القوى اللبنانية، حول ما يمكن أن يحصّله لبنان من تداعيات "صفقة القرن". فأساساً، هناك وجهة نظر واضحة لدى قوى "التسوية"، وتحديداً تيار المستقبل والتيار الوطني الحرّ، بأن ما بينهما هو أيضاً في "صفقة قرن" ستمتد طويلاً ما بعد عهد ميشال عون. وهي صفقة ليست بعيدة عن التحولات الكبيرة في المنطقة.

فهذا التحالف، أو "التسوية" التي تمت بينهما كانت إحدى النتاجات غير المباشرة للاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. وهناك قناعة راسخة لدى الطرفين بأن مقومات هذه الصفقة ستبقى قائمة مستقبلاً، تحت ظلال حزب الله ورعايته. وهي لن تكون بعيدة عن المآل المنطقي للعلاقة الإيرانية الأميركية، التي تشهد تصعيداً حالياً، وستشهد في المستقبل مفاوضات وتفاهمات.

الحدود وبرّي
خلال جولاته المكوكية إلى لبنان، قال ديفيد ساترفيلد "إن بلاده لا يضيرها أن تكون الكفة في المنطقة راجحة لصالح إيران، طالما الأخيرة تلتزم باتفاق مع الأميركيين". الرسالة هنا واضحة المعنى والمغزى. فما تريده واشنطن هو تحقيق اتفاق مع إيران، كما قال دونالد ترامب، الذي يريد إعادة إحياء مجد إيران، وأن يكون أفضل صديق لها. وهذا يعني أنه لا يمكن لصفقة القرن أن تبصر النور من دون إتفاق أميركي إيراني.

لم تكن مساعي ساترفيلد لإطلاق مفاوضات ترسيم الحدود لتبدأ وتستمر، لو لم يكن هناك ما يشملها في مندرجات صفقة القرن. ولكن حتّى الآن، هناك خلافات لبنانية على آلية التعامل مع هذه المساعي، على الرغم من الحديث عن توحيد الموقف اللبناني. وكما أصبح معروفاً، فإن هذه المفاوضات مناطة بالرئيس نبيه بري. الأمر الذي يزعج آخرين، خصوصاً الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل. إذ أنهما يعتبران أنفسهما أكثر المعنيين بهذا الملف، نظراً لمفاوضات عديدة جرت بينهما وبين بعض المسؤولين الأميركيين. كما أن هذا الملف كان أحد عناوين التواصل بين الحريري وجاريد كوشنير.

لا تنفصل مساعي ترسيم الحدود، عن ملفات أخرى على الساحة اللبنانية. وهنا لا بد من التذكير بلقاء وزير الخارجية جبران باسيل مع نظريه الأميركي مايك بومبيو، خلال زيارته إلى لبنان. وجرى خلاله البحث في العديد من الملفات، أبرزها ملف اللاجئين السوريين، والذي عاد باسيل وسرّب أجواء إيجابية تتعلق باقتناع بومبيو بوجهة نظر لبنان.

العرض المغري.. و"المسموم"
ما أصبح معروفاً في الكواليس، أن لبنان يراهن على مساعدات مالية كثيرة، من نتاج التحضير لصفقة القرن. فحتى مؤتمر سيدر ومساعداته ستكون مرتبطة بتلك الصفقة. وهذا ما يظهر أسباب استعجال بعض القوى كالحريري لتطبيق شروط سيدر، بينما هناك قوى تأخذ وقتها، خصوصاً في ملف ترسيم الحدود. فتارة تتحدث عن إيجابية، وتارة أخرى تتحدث عن تلاعب إسرائيلي. تارة تستعجل، وطوراً تعتبر أن الاستعجال يخدم العدو. وهذا التمهّل يبدو واضحاً، إذا ما قورن بكلام ساترفيلد حول النفوذ الإيراني في المنطقة، الذي لا تمانعه واشنطن، بشرط أن يكون على توافق معها أو خاضع لضوابطها. ما يعني أن الاستمهال وعدم الاستعجال يدرج الملف في خانة تفاوض أكبر من الساحة اللبنانية، ويرتبط بمسار العلاقة الإيرانية الاميركية.

في هذا السياق يأتي موقف الرئيس نبيه برّي إزاء مؤتمر البحرين، الذي يشير في مضامينه إلى تناقض لبناني داخلي، غير علني، في كيفية التعاطي مع المؤتمر وتداعياته أو ما يرتبط به، على الرغم من التأكيد أن من غير الممكن للبنان المشاركة في هذا المؤتمر. والموقف الرسمي يعارض قطعياً صفقة القرن. إذ يقول بري: "ولكي ﻻ يفسر البعض الصمت الرسمي اللبناني قبوﻻً للعرض المسموم، نؤكد على أن اﻻستثمار الوحيد الذي لن يجد له في لبنان أرضاً خصبة، هو أي إستثمار على حساب قضية فلسطين، وحقوق الشعب الفلسطيني بالعودة إلى أرضه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف".

صراحة ديفيد هيل
لكن أيضاً في لبنان، هناك من يعتبر أنه لن يكون قادراً على الوقوف بوجه هذه الصفقة، خصوصاً إذا ما سارت المفاوضات الأميركية الإيرانية على نحو إيجابي مستقبلاً، إذ لا يمكن إبرام هذه الصفقة وضمان نجاحها من دون اتفاق أميركي إيراني. لقد قال ديفيد هيل أيضاً، أثناء لقاءاته اللبنانية، إن صفقة القرن "تسير على هديها بلا أي مقابل للعرب، وستكون في النهاية عبارة عن مقايضة بين تطبيقها وإطلاق يد النفوذ الإيراني باعتراف دولي في هذه المنطقة". يؤشر هذا الكلام، إلى أن كل الملفات أصبحت مرتبطة ببعضها البعض، ولا يمكن الفصل فيما بينها، حتى بما يتعلّق بالأوضاع السياسية التفصيلية داخل كل دولة.

بمعنى أوضح، سيغيب في المرحلة المقبلة، بفعل التلاقي الدولي، أي ضغط عربي على لبنان، على الرغم من الانزعاج من "التسوية" القائمة. وربما كان صحيحاً، بعد زيارة وفد مجلس الشورى السعودي، الحديث عن زيادة الدعم الخليجي للبنان في المرحلة المقبلة. ما سيؤشر إلى التطبيع مع هذا الواقع، على قاعدة التعامل بواقعية، مقابل البحث عن ضمانات في الخليج. ما يعني أن النتائج الخطرة لهذا المسار الإقليمي (والمحلي) لن تظهر حالياً، إنما ستكون مدوية على المدى البعيد.