أثناء سيطرة فصائل المعارضة السورية على المناطق الحدودية المتاخمة للبنان، وقعت "تجاوزات" وانتهاكات عديدة بحق بعض المواطنين اللبنانيين. أكثر من عملية خطف تعرّض لها مواطنون لبنانيون بين عامي 2011 و2015. واقتضى الأمر صولات وجولات من المفاوضات لإطلاق سراحهم. في تلك الفترة، كان لدى النظام السوري خطاب واضح يتماهى مع خطاب حلفائه اللبنانيين، مفاده أن ممالأة المعارضة ستؤدي إلى المزيد من الحوادث المشابهة، وإلى ضرب الاستقرار الأمني والاجتماعي اللبناني. ركّز النظام وحلفاؤه على هذه الدعاية السياسية، بغية دفع السلطات اللبنانية (ومواطنيها) إلى معاداة "المعارضة" أولاً، والتنسيق بين الدولتين في محاصرة ومحاربة الثائرين على النظام، ثانياً.

الدعاية والأمن
هكذا، نشأت منظومة سياسية وإعلامية كاملة تطالب بهذا التنسيق. ونجح النظام السوري بفعل التطورات السياسية الدولية والإقليمية في فرض إرادته أو دعايته وتعميمها، خصوصاً بعد تشتت "الجيش الحر" وتصدر "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش" للمشهد. فيما نجح "حزب الله" في البقاع الشمالي تحديداً في تحوير تورطه بالحرب على الشعب السوري إلى "الدفاع عن لبنان وحدوده". ونتج عن هذا كله تجديد في حرارة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، وترتيب زيارات رسمية من وزراء لبنانيين إلى سوريا، ناهيك عن التنسيق الأمني، الذي بقي مستمراً طوال سنوات الصراع، على الرغم من أنه كان راجحاً في فترة من الفترات لصالح المعارضة، وقبل إستعادة النظام لأنفاسه وقواه.

المعادلة التي أراد النظام طرحها، في تلك الفترة، أن المعارضة السورية المسلحة، أو الفاعلة ميدانياً، هي غيرها "المعارضة السياسية" التي كانت تتحدث عن الاعتراف بسيادة لبنان وبالعلاقات الندية معه. ومن هم على حدود لبنان "إرهابيون". وهؤلاء لا يقيمون اعتباراً للسيادة اللبنانية وقد يصدّرون نيران الحرب إلى داخل لبنان. فبدا النظام وكأنه يخيّر اللبنانيين بين القبول بهذا الواقع الذي يهدد الأمن والسلام الاجتماعي اللبناني، أو بين الانحياز له، على الرغم من ازدرائه التاريخي لسيادة الدولة اللبنانية.

الحدود والتحريض
ما أراده النظام ليس فقط الإمساك بالحدود، بل تحريض اللبنانيين على الثائرين السوريين، وعلى اللاجئين أنفسهم. وهو نجح إلى حد كبير في تحقيق هذا الهدف، خصوصاً وأن حليفه الأول، حزب الله، شارك في الحملة العسكرية هناك، وحليفه الثاني، التيار الوطني الحر، تولى دور إشعال الحملة السياسية والطائفية على قضية اللاجئين. أراد النظام وموالوه أن يقولوا أن مختلف السوريين يندرجون في خانة "الخطر" على الكيان اللبناني ومجتمعه، مع فارق أن "النظام" هو الأقوى والأفضل والأقدر على إبرام الاتفاقات أو ضبط الحدود، وأن بيده تخريبها أو ترتيبها.

ما حدث منذ خروج المعارضة من تلك المناطق، وسيطرة النظام السوري عليها، هو الأسوأ. عمليات اعتداء متكررة ومتسلسلة على لبنان ومواطنيه، لا بوصفها "حوادث عابرة"، لكن عن سابق تصور وتصميم، وكان آخرها في عرسال قبل فترة، حين وقع اعتداء على ثلاثة مواطنين كانوا في رحلة صيد بالجرود. إذ خطفهم الجيش السوري ونقلهم إلى أحد مراكزه وقتل واحداً منهم بعد تعذيبه. ثم اختطف الجيش السوري قبل أيام، في سفوح جبل الشيخ، شابين لبنانيين، تبيّن أنهما من جهاز "أمن الدولة".

عندما كانت تقع حوادث كهذه على يد فصائل المعارضة، كانت تتحرك ماكينة إعلامية وسياسية لبنانية هائلة، للتهويل على لبنان واللبنانيين إذا تمكنت هذه المعارضة من إسقاط النظام في سوريا. كانت الدعاية تركز على "مصلحة" لبنان في التنسيق مع النظام لتثبيت الأمن. أما وبعد اعتداءيّ عرسال وجبل الشيخ، فلم نر ولم نسمع ولم نقرأ أي موقف إدانة من قبل السلطات اللبنانية وأحزابها، ولا حتى أي تحرك رسمي لمعالجة تلك القضية.

الصمت والانتقام
وفيما كان حلفاء النظام، الممسكين الآن بزمام السلطة في لبنان، يشددون على مبدأ التنسيق لمعالجة مثل هذه الحوادث، فقد إلتزموا الآن بصمت مطبق. ولم يصدر لبنان أي موقف رسمي احتجاجي. ولم يظهر أي اعتراض ولو شكلي من الدولة اللبنانية على قتل جندي متقاعد. ما يطرح أسئلة عديدة حول توجهات السلطات اللبنانية، وصمتها على هذا النوع من الممارسات، خصوصاً في ظل التأكيد المستمر والعلني عن وجود قنوات تواصل بين لبنان وسوريا. وبالتالي، كان بإمكان تلك القنوات الرسمية العمل على تسلّم المخطوفين على نحو رسمي، خصوصاً أن اللذين خطفهما النظام السوري في جبل الشيخ، لديهما صفة رسمية وليسا مواطنين عاديين.

هذا السلوك، يدلّ على نمط تفكير النظام السوري تجاه لبنان. النظام تعمّد تسليم عنصري جهاز أمن الدولة إلى رجل سياسي محدد، في ما يشبه رشوة انتخابية صغيرة، ما يدل أيضاً على رغبته المستمرة في التورط بالحياة السياسية الداخلية في لبنان.

دأْبُ النظام السوري هو التعامل مع لبنان كأنه ليس دولة، بل مجرد جماعات إما تابعة له أو معادية يجب سحقها و"اغتيالها". وإذا كان النظام يتصرف بهذه العقلية وهو في حال من الضعف، فكيف سيكون تصرّفه إذا ما قوي أكثر؟ ولعل أكثر فكرة راسخة بعمق في "عقيدة" هذا النظام هي السعي لدخول لبنان مجدداً، للإنتقام والثأر من قوى مناهضة له، حتى قبل أن تتاح له الفرصة مرة أخرى لفرض "وصايته". فهذه الأحداث الأمنية، لا تنفصل عن ملفات سياسية عديدة يحضّرها النظام السوري للتدخل في لبنان. 

التهريب والتنسيق
ما يمارسه النظام السوري لا يمكن فصله عن عمليات التهريب بين لبنان وسوريا، التي يبدو أنها تتم برعايته. فقدرته على الإمساك بالمسارب الحدودية واعتقال "متنزهين" لبنانيين، تشير بوضوح الى قدرته على ضبط المهرّبين أو تسهيل عملهم أو حتى "إدارتهم". خصوصاً أن شبكات التهريب تُدخل البضائع إلى لبنان من سوريا، من دون أي رسوم جمركية عبر أكثر من 120 معبراً غير شرعي!. وهذه البضائع غالباً ما تكون قد حطّت في المرافئ السورية التي يشرف عليها النظام.

ولعل ما يجري هو تمهيد من النظام لخطوات أكبر نحو استعادة هيمنته على الداخل اللبناني، عبر القول للبنانيين: لا يمكنكم ضبط أمنكم وحدودكم و لا وقف التهريب (أو مزاولته) من دون العودة إلى حضني. ولا يمكن لذلك أن يتم من دون تقديم فروض الطاعة. أولها، زيارة رئاسية رسمية طال انتظارها، وباتت داهمة الآن. وثانيها، ما يحكى عن تطوير التنسيق الأمني بين البلدين، في ملفات اللاجئين أو ترحيل بعض المعارضين وتسليمه إياهم، على شاكلة ما أقدم عليه الأمن العام قبل أيام، بتسليم جنود منشقين وعائلات إلى المخابرات السورية.