يقيم نجيب ميقاتي في جمهوريته الخاصة. لبنان الذي نعرفه، يتلاشى. قيمة السياسة فيه تتضاءل. يقضي معظم أوقاته في مكتب مساحته كبيرة، يضم أكثر من غرفة اجتماعات، وقد أطلق على كل غرفة منها اسم مدينة لبنانية. هكذا، ترتسم حدود جمهوريته، حيث يعيش مع ذكريات وطموحات. يحمل الرجل طرابلس معه. ففي الممرّ المؤدي إلى مكتبه، لوحات طرابلسية على الجدران. لوحات رسمت بالفحم. واحدة للجامع المنصوري الكبير، وأخرى لبرج السباع، وثالثة لمدخل الجامع الكبير.

حكمة الموازين
في مكتبه، يجلس نجيب ميقاتي وظهره للسراي الحكومي. يبدو السراي بكامل تفاصيله تحت ناظريه لو أراد، لكنه يتعمّد إدارة ظهره لها. مقابله لوحة لعلم لبناني غير مكتمل، لرسام سويسري. عناصر اللوحة غير مكتملة، في إشارة على لبنان المفتقد، أو الذي لا يزال بحاجة إلى تطوير وبناء. يقف رسم اللوحة عند جعل فرشاة الطلاء جزءاً منها، وكأن ثمة ما يعيقها لاكتمال الرسم. بالنسبة إليه تجسّد اللوحة حالة البلد.

يفضّل النظر إلى هذه اللوحة بدلاً من الإبحار نظراً أو حلماً أو ذاكرة لأيام السراي. يحيط بجلسته، أكثر من ميزان، واحد "لحفظ الإنسان لثقله وقيمته" وفق ما يقول، والثاني نسبة للآية الكريمة "فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية". وثالث لإيفاء الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم. ورابع للتأكيد على التوازن والوسطية، إذا ما أردنا للبنان أن يبقى كما نعرفه. لكنه يعلم أن لبنان تغيّر، ولم يعد هناك غير التعصب والشعبوية.

حكم "الزوايا"
يبدو القرف سمة عامّة لدى بعض الساسة في لبنان حالياً. فالأحوال السياسية القائمة، لا تسرّ. وتؤشّر إلى أن كل التسويات تتم على حساب الوطن. تنتفي المصلحة العامة، ولا تطبيق لمنطق المحاسبة. يقرأ ميقاتي في هذه التحولات، معتبراً أن "لبنان يتغيّر من دون أن يشعر أحد. فأصبح التلاعب بالدستور مستسهلاً، طالما يلبّي ويلائم الأطراف المتفقة فيما بينها". يبتدع معادلة سياسية جديدة، وفق مقارنته بين اتفاق الدوحة والتسوية الرئاسية القائمة اليوم. فسابقاً عمل اتفاق الدوحة على ضرب الدستور، والآن هناك تسوية سياسية تهمّش الدولة، وهي عبارة عن بدعة جديدة تحتل فيها "الزوايا" مكان المؤسسات، على غرار ما كانته "الزوايا" المختلفة في المدارس الدينية الكبرى. فلكل طرف سياسي زاويته الطائفية في الدولة التي عليه الإهتمام بها، الطرف السنّي يهتم بالسنة، والمسيحي بالمسيحيين، والشيعي بالشيعة.

معادلة ميقاتي واضحة. في هذه التسوية انتقلنا من حكم الدولة إلى حكم الزوايا. وأخطر ما يجري، هو اللعب الدائم على الوتر الطائفي، والاستثمار بالتحريض المذهبي، تماما كما هو حاصل منذ مدّة طويلة في وسم طائفة معينة أو مدينة معينة كطرابلس بالإرهاب. يخلص ميقاتي إلى أن هذا المنطق، هو الذي ينتج قضية وطنية كقضية "الحدت"، التي أثيرت في الأيام الأخيرة، وأدت إلى توتر طائفي ومذهبي على خلفية قرار بلدية الحدت بمنع تملّك أو استئجار المسلمين. لا يعتبر الرجل أن ما يجري مجرّد تفصيل، ويرى فيه وكأنه يندرج في إطار التحضير لشيء ما قد يحدث، وربما سيكون مرتبطاً بسوريا. فالسؤال حول المصير السوري إجابته شائكة ومعقدة. لكن أي تغيير سيحصل في سوريا سينعكس على لبنان. وهذا يدعو إلى التخوف على مصير البلد وكيانيته.

حماية السراي
تلك الحملات التحريضية، تقابلها أخرى في السياسة، تتجلى في ممارسة استعلائية واستقوائية من قبل أحد الأطراف. يجزم بضرورة وقفها، لأن لبنان محكوم بالدستور والطائف. ولحمايتهما يهون كل شيء. وهذا الأمر دفع رؤساء الحكومات السابقين إلى الالتقاء، والاجتماع على موقف موحد ومنسجم، لتعزيز سلطة الدولة. هنا فقط يلتفت ميقاتي بنظره نحو السراي، ولا يدير ظهره، بل يقف على يمين السراي ويضعها على يساره، إلى جانب رؤساء الحكومات السابقين لحماية الموقع والدور، بما يمثّل حماية للبنان بحياته السياسية التشاركية والتعاونية.

يستذكر الرجل المعركة الانتخابية الشرسة التي خاضها ضد الرئيس سعد الحريري في طرابلس. ولكن في ما بعد، حصلت سلسلة تعديات على صلاحيات رئاسة الحكومة: "فوجدنا أن الخسارة ليست لشخص ولا للطائفة السنية، لأن اهتزاز هذا الموقع هو اهتزاز في أركان الدولة". ويعتبر أنه عندما تقتضي الحاجة، نلتقي مع الرئيس الحريري ونتشاور في ما يجب فعله. ولكن هل هناك فعلاً اعتداءً على صلاحيات رئاسة الحكومة؟ بينما الحريري نفى ذلك؟ يقول ميقاتي:" هناك مثل انكليزي يقول إن الانطباع هو الحقيقة perception is reality، قد يكون التعدي غير صحيح ولكن الانطباع موجود".

يستلهم ميقاتي من جملة الرئيس رفيق الحريري "ما حدا أكبر من بلده" ويقول: "لا يمكن لأحد أن يقدم نفسه على الوطن". ولا لأحد أن يظنن نفسه متقدماً على الوطن والدولة، أو يعتبر أنها لا تستقيم من دونه أو في غيابه، الدولة لا تستقيم بغياب مكون أساسي عنها، أو بالتعدي على دور مكون أساسي فيها، ما يؤدي إلى الاختلال في الميزان. يعرف الرجل أن لا فرصة حالياً للعودة إلى السراي الحكومة. لذلك يصرّ على إدارة ظهره لها، لأن التسوية القائمة حالياً واضحة. فرئاسة الحكومة للحريري بموجب التسوية الرئاسية. ولكن ماذا عما بعد التسوية؟ أو ما بعد ولاية الرئيس ميشال عون؟ وهل يمكن أن تُمدَّد هذه التسوية بحال وصول الوزير جبران باسيل إلى رئاسة الجمهورية؟ يضحك ميقاتي، ويتمنى أن يمد الله بعمر الرئيس عون. وقبل الانتخابات الرئاسية سيكون هناك انتخابات نيابية، هي التي ستحدد موازين القوى.

ما بعد الغضب والاستياء

يبدو الرجل مرتاحاً لموقعه ودوره، لم يندم يوماً على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة، ويستذكر تلك المرحلة التي قادته إلى تقديم استقالته، قائلاً: "قدمت استقالتي حفاظاً على كرامتي وكرامة الموقع الذي شغلته، وكي لا أسمح بوضعي في مواجهة مع بيئتي، قدّمت استقالتي ولست نادماً على ذلك". ويؤكد:"عندما أكون رئيساً للحكومة، لا يمكن أن أسمح لأي طرف أن يحكمني أو يتحكم بي".

لا يبدو الرئيس ميقاتي بعيداً عن المزاج العام الممتعض من الممارسة السياسية القائمة، الغضب موجود، وبعض تعبيرات الاستياء أيضاً موجودة، من خلال مواقف للعديد من الأفرقاء. وهو يعتبر أن لقاءات رؤساء الحكومات ليست إلا بهدف دعم الموقع ولجم محاولات الإخلال بالتوازنات. وهذه تلتقي معها مواقف قوى أخرى، كالقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي والكتائب اللبنانية وآخرين. وعندما تسأله عن إمكانية التنسيق مع القوات مثلاً يجيبك سريعاً: "خطاب القوات اللبنانية وأداؤهم في الحكومة والمؤسسات ممتاز. وهم يلتزمون باتفاق الطائف وبعدم الإخلال بالتوازنات". أما وليد جنبلاط فيصفه ميقاتي بالذي يمثّل ثقلاً تاريخياً، ولا يمكن إلغاؤه بأي شكل، ولو ظهر بحالة من الضعف بمرحلة معينة، فهذا الضعف مرده ضياع الحليف السني الوطني، وأيضاً بسبب الضياع السياسي بين مختلف القوى. ولكن هل من الممكن أن تجتمع قدرات هذه القوى على كلمة سواء، لمواجهة ما يجري؟ يكتفي ميقاتي بكلمة: "نعم ممكن".