عشرون جلسة من المناقشات والمناكفات والتنظير،عقدتها هذه التي تُسمى حكومة في هذا البلد البائس، لإعداد ما يقال إنه مشروع موازنة تقشفية، وبعدها سلسلة متواصلة من الجلسات المشابهة يعقدها ما يُسمى برلمان يمثّل الشعب، وأي شعب معتوه هذا الذي لا يزال يتفرج على سياسات المساخر وسياسيي الفضائح، ولم ينزل بعد مثل الموج الغاضب يجرفهم الى بئس المصير؟

ما الفرق بين الوزراء الذين حملوا أفكارهم النيّرة جداً الى جلسات الحكومة لوضع قواعد الموازنة، والنواب الذين يحملون أفكارهم الفذة جداً جداً، الى جلسات مناقشة المشروع في البرلمان؟

لا فرق على الإطلاق، فالسلطتان التنفيذية والتشريعية في هذا البلد وجهان لعملة واحدة، ولهذا ليس كثيراً إذا قلنا أمام هذا المسلسل الفضائحي المعيب، إننا مجموعة ناس في دولة مسخرة، ذلك أنه ليس في تاريخ الدول المتحضرة وحتى المتخلّفة دولة غارقة في الديون الى أذنيها، تحاول وضع موازنة تقشفية، تتحول جلساتها عملية تمرين، فالشيء وضده، اليوم نتفق على هذه الضرائب وغداً نتراجع عن بعضها، تماماً كمن يراشق الشجرة ليأكل الجوز!

الفظاعة الفجة أنهم يتبارون ويتفاصحون في الحديث عن حرصهم على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، لكنهم مثلاً يرفعون الضريبة على القيمة المضافة [TVA ] التي تطال في النهاية حتى الهواء الذي يتنفسه كل من وقف على هذه الأرض السعيدة، والفظاعة مثلاً أنهم يقترحون فرض رسوم على حمل رخص السلاح، ثم يكتشفون ان ذلك سيجعل لبنان ساحة “كاوبوي” أكثر مما هو حقل رماية فيتراجعون، ويقترحون رسماً على زجاج السيارات الداكن ثم يتراجعون.

دولتنا الساهرة على الصحة العامة تمنع تعاطي النارجيلة في المقاهي تحت طائلة العقوبة، ثم تأمل في سد عجز المليارات التسعين المنهوبة نهباً من خلال الألف ليرة على نفس النارجيلة، ولست أدري لماذا لم تُعقد جلسة خاصة للنظر في الرسم على التنباك المعسّل، وثانية مخصصة للعجمي، وثالثة للاذقاني، ما دمنا في سياسة أركلة بأركلة؟

إقترحوا ضريبة شاملة قيمتها ٢٪ على البضائع المستوردة، ثم إكتشفوا ان الأمر يحتاج الى دراسة لحماية الإنتاج الوطني، تخبيص بتخبيص ورغم هذا لا يترددون في الوقوف أمام الكاميرات وعرض ما أنجزوه من الافكار المبدعة والإنجازات البدعة!

موازنة تقشف تسرق فوائد المودعين في المصارف بعدما إستدانت ودائعهم لسد عجزها المتنامي نتيجة السرقة المتوحشة في الدولة العفنة، وتسرق القطاع الخاص لتصرف على قطاع عام يتآكله الفساد. وهي ليست أصلاً في حاجة الى سرقة الناس والفقراء، يكفي ان تنظّم الجباية لتسد العجز، يكفي ان تذهب الى بواليع الكهرباء التي كبدت البلد ٣٣ ملياراً، كان يمكن هذا المبلغ ان يؤمن الكهرباء لقارة آسيا. يكفي ان تضبط عمليات التهرب الضريبي. يكفي ان تذهب الى المقالع والمرافىء الفالتة للتهريب والى المرامل والكسارات التي تدمر طبيعة البلد ليجني أصحابها وحماتهم المليارات. يكفي ان تقفل مجالسها ودكاكينها الملحقة النابتة كالفطر الى جانب وزارات فاشلة!

هذه ليست دولة تأكلها الديون تعكف على درس موازنتها، هذه دولة هواة يحاولون تركيب موازنة تمنع البلد من الإنهيار النهائي، لكنها تحرص على ان تحفظ للحيتان حصتهم، وفي هذا البحر من اليأس الشعبي القاتل كثير من سمك البزري المسكين!