لواحدنا أن يجادل في كلّ ما يتعلّق بالثورة السورية: متى كفّت عن أن تكون ثورة لتبتلعها الحرب الأهليّة؟ متى صعد الإرهاب التكفيري من رحمها، أو من رحم سَحقِها؟ أي ضرر أحدثته عسكرتها؟ لماذا غاب عنها حضور المدن؟ أي دور كان للخارج فيها؟ أي وعي حكمها؟ أي ممارسة سادتها؟...

شيء واحد تستحيل المجادلة فيه؛ إنّه التاريخ.

والتاريخ ليس «الذاكرة» التي هي بطبيعتها، خصوصاً في مجتمعات قليلة الإجماعات، متعدّدة تعدّد الجماعات التي تحملها، وأحياناً الأفراد الذين يحملونها. الكلام عن ذاكرة واحدة ينضبط الجميع بها كلام قمعي وافتراض قومي ضمناً. وهذا فضلاً عن أنّ الذاكرة انتقائيّة تعريفاً، تُعرّضها انتقائيّتها للتلاعب كما يُضعفها مرور الزمن ويعرّضها للنسيان. مرور الزمن، بما هو معرفة أكبر وكشف أكثر، لا يُضعف التاريخ؛ بل يزيده قوّة وغنى.

على العموم؛ الذاكرة ذاتيّة أكثر من التاريخ. التاريخ موضوعي أكثر من الذاكرة. لهذا حين تحتدم حرب الذاكرات يُحتَكَم إلى التاريخ الصلب، الذي يعكسه الأرشيف جزئيّاً. والحال أنّ الثورة السورية كانت، في سنتها الأولى، وهي للأسف سنتها الأخيرة، عودة إلى التاريخ بمعنى ما. لقد حاولت إعادة اكتشافه ثمّ إعادة استملاكه. نبشت العَلَم الوطني الذي هو علمها من تحت ركام الطبقات العسكريّة والقوميّة. ذكّرت نفسها وذكّرت العالم بأنّ سوريّا عرفت أحزاباً وحياة حزبيّة، وكان فيها صحافة وبرلمان وسياسيون، قبل أن يتقلّص التاريخ إلى مجرّد انتظار ميّت لمجيء المخلّص. تصدّت لمفاعيل الانقلاب الذي طال التاريخ مثلما طال كلّ شيء آخر.

هذه المهمّة الإحيائيّة قُصفت مثلما قُصفت الثورة نفسها.

اليوم، في موازاة انتصاره العسكريّ، يسعى النظام السوري وراء انتصار في التاريخ. يسعى وراء كتابة زائفة لتاريخ زائف. ولأنّ البداية تتحكّم إلى حدّ بعيد بالنهايات؛ اختيرت «المؤامرة» بداية في هذا «التاريخ»: البلاد كانت سليمة معافاة تسبّح بحمد زعيمها إلى أن هبّت عليها، ذات ليل: «مؤامرة تكفيريّة مدعومة من الخارج». قبل ذاك النعيم. بعد ذاك الجحيم. بينهما يوالي الرئيس بشّار الأسد نضاله لاستعادة ذاك الفردوس المفقود السابق على 2011. ولأنّ ما حصل مؤامرة، لا ثورة، فإنّ تلك الاستعادة أقصى ما يصبو إليه السوريّون ومَن يتمنّون لهم الخير والسؤدد.

إذن «المؤامرة» التي ظهرت بالأمس أتت من لا مكان ومن لا سبب. وهل يُعقل أن يكون رفض الفردوس شيئاً آخر غير... مؤامرة؟

وفقاً لهذين؛ التاريخ والتأريخ، لم تعرف سوريّا النظام الأمني وزنزاناته، وكمّ أصوات الإعلام وتحريم المعارضة الحزبيّة والاستقلال النقابيّ، كما لم تعرف تركيب السلطة الطائفيّ، ولا اتّساع رقعة الفقر والبحث عن العمل في العشوائيّات وفي الخارج، ولا مصادرة قرار الجيران الفلسطينيين واللبنانيين وتهديد الأردنيين وخوض الحروب المسكونة بالهزائم... حماة 1982 لم تكن سوى إشاعة مغرضة.

إنّ التهذيب لا يسمح بكلمة أخرى غير «التزوير» في وصف تاريخ وتأريخ كهذين.

فللسوري أو دارس سوريّا أن يردّا أصول المأساة الراهنة إلى محطّات تأسيسية عدّة: قد يظهر من يعتمد توريث الأسد الابن في 2000 نقطة انطلاق، لأنّ التوريث حوّل البلد إلى ما يشبه المُلكيّة العائليّة المقفلة. قد يظهر من يعتمد انقلاب 1970 بوصفه استكمالاً لتأميم السياسة وتعزيزاً له بعبادة الشخصيّة التي كانَها الأسد الأب. قد يظهر من يعتمد حرب 1973 بوصفها درّة تاج النظام الأمني التي وفرّت له «الشرعيّة القوميّة» والدعامة الماليّة. قد يظهر، في المقابل، من يعتمد انقلاب 1966 بوصفه التفافاً على المشكلة بمكابرة التطرّف والمزايدة الآيديولوجيين. وقد يظهر من يعتمد انقلاب 1963 الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة وأنهى التعدّد السياسي الذي أقامه «نظام الانفصال». وربّما عثر البعض، فوق هذا، على «ما قبل تاريخ» للمأساة الراهنة مشدودٍ على نحو أو آخر إلى حاضرها الأسدي الأمني والعسكريّ.

هذه كلّها محطّات ممكنة، كلّ واحدة منها تنطوي على قدر من الحقيقة، وقد تكون الحقيقة خلاصة الجمع بين هذه المحطّات التي وجدت في النظام الأسدي مَصبّها وتتويجها.

وهذا كلّه قابل للأخذ والردّ باستثناء الافتراض المضلّل الذي يُبنى عليه التاريخ الرسمي السوري كما يكتبه منتصر نصره حلفاؤه الخارجيّون. فالمقدّمة التي يرسمها بداية لا تفضي إلا إلى نهاية وخيمة أخرى سوف يقاومها السوريّون مثلما قاوموا صيغ التزوير التي سبقتها. ذاك أنّهم سيرون فيها استبدالاً لتاريخهم بخرافة تتستّر على دمهم، وسيطلع من هذا الاستبدال صوت يقول لهم إن ضحاياكم لا يُحَدّ عليهم لأنّهم ليسوا أبناء التاريخ، بل أبناء المؤامرة. والويل مِن حُزن لم يُتَح له أن يُختَم بحِداد.