بالتأكيد، الوفد الروسي لا يفكّر في النازحين. بعض اللبنانيين يظنّون أنه آتٍ للمساهمة في حلحلة الملف، لكنّ الجمرة لا تكوي إلّا مكانها. وأما طموحات القيصر فهي أكبر بكثير: التوغّل في المياه الدافئة عبر الشاطئ السوري- اللبناني، وحقول الغاز والنفط ومشاريع التوسُّع الاقتصادي وتكريس موقعٍ في التسويات الكبرى الآتية إلى الشرق الأوسط. ولا داعي للاستعجال في قضية النازحين.
 

حتى إشعار آخر، مَن يريد عودة النازحين السوريين إلى بلدهم سيصاب بالخيبة، لأن أيّ طرف في الخارج لا يريد عودتهم: الأوروبيون مرتاحون منهم، وكذلك أغنياء العرب. وأما النظام نفسه فيبدو الأكثر تعنُّتاً. هو يريد ترتيب مسائله الداخلية، الديموغرافية والسياسية والأمنية، ليقرِّر إذا كان سيفتح الأبواب للنازحين، لجميعهم أو لبعضهم، وتحت أيّ شروط.

فوق ذلك، هي فرصة النظام للإنتقام من «خطأ» انسحابه من لبنان في العام 2005. هو يريد مساومة اللبنانيين على كل شيء، وقد يوافق على استعادة مليون ونصف مليون نازح أو لا يوافق. بل هو يضع الحكم اللبناني أمام استحقاق مرير: إما بقاء النازحين إلى أجلٍ غير مسمّى، أي لسنوات وسنوات، وإما الرضوخ للابتزاز «القديم» على رغم من أنّ النظام نفسه، في 2005، أوحى بأنه تلا فعل الندامة مراراً على خطاياه المرتكبة في لبنان.

إذا كان يراد الكلام بصراحة، و»من دون كفوف»، يجب الاعتراف بأن لا أفق ظاهراً لعودة النازحين السوريين من لبنان، وأن بقاءهم يترسّخ يوماً بعد يوم، على رغم من الاستنفار الذي يُسجَّل لضبط فوضى النزوح اجتماعياً وأمنياً وديموغرافياً.

وهذا يعني أن لبنان المقبل سيواجه تحدّي التعاطي مع هذا الملف الشائك جداً: هل سيتم تنظيم إقامة النازحين في المخيمات و«أشباه المخيمات» وخارجها؟ وعلى أيّ أساس؟ وكيف سيتم ضمان أمنهم؟

وإلى أين ستقود الولادات الكثيفة في بيئةٍ تُصَنَّف من الأعلى خصوبةً في الشرق الأوسط، فيما يتعذَّر على غالبيتها أن تتسجَّل في قيود سوريّة رسميّة؟ ومَن سيتكفَّل بدعم لبنان المترنِّح مالياً واقتصادياً ليواجه هذا الاستحقاق؟

في المرحلة المقبلة، سيكون ملف النزوح جزءاً من المساومات الكبرى لا بين لبنان وسوريا فحسب، بل بين الدول المتجاورة كلها في الشرق الأوسط. وسيكون جزءاً من التعديلات التي ستطرأ على الكيانات القائمة.

مثلاً: سكان الأردن يعودون إلى أصول فلسطينية بنسبة يقدرها البعض بـ 65%. وفي الأردن نحو 700 ألف نازح سوري. وفي التسوية المتداولة للملف الفلسطيني، هناك اتجاه إلى كونفدرالية أردنية - فلسطينية. وفي ظل هذه الوقائع والضغوط، ماذا سيبقى من الهوية الأردنية التي نعرفها اليوم، ومن العرش الأردني الذي يعيش في هذه الفترة أقسى مواجهاته مع التسوية المطروحة.

ولا يبدو لبنان بعيداً عن النموذج الأردني. فسكانه اليوم نحو 6 ملايين، بينهم مليونان ونصف مليون سوري وفلسطيني، بين نازحين ومقيمين وعمال دائمين أو موسميين. فإذا ترسّخ وجود الفلسطينيين بالتسوية المحتملة مع إسرائيل، وترسّخ وجود السوريين بإنعدام التسوية في سوريا، فإنّ لبنان الآتي سيكون مختلفاً عما هو اليوم.

وفي الخلاصة، لبنان والأردن سيتغيَّران في المرحلة المقبلة نتيجة إغراقهما بالنازحين. وقد يكون وضع الأردن أشدّ صعوبة، بحيث لا يمكن الفرار من القدر. لكن أمام اللبنانيين هامشاً كافياً للنجاة بالبلد، إذا توافقوا على مواجهة الملف بجرأة وكفّوا عن التكاذب.

بصراحة أكبر: إذا استمرّ «حزب الله» ممسكاً بسلاحه ويسيطر به على الفئات الأخرى، فإن خصمه المذهبي السنّي - الذي لا تتوافر له فرصة التسلّح بالمثل- لن يكون متحمّساً لإخراج النازحين السوريين والفلسطينيين من لبنان. والعكس صحيح.

وستكون المعادلة - ضمناً- هي: الغلبة الشيعية بالسلاح مقابل الغلبة السنّية بالديموغرافيا. لكن هذا الكلام يحاول الطرفان المذهبيان إنكاره. وأما المسيحيون فينامون على هواجس السلاح والديموغرافيا في آن معاً، وليس في يدهم أيّ ورقة للمواجهة لا هنا ولا هناك.

في الصفقة السلطوية القائمة حالياً، واضح أن هناك اتفاقاً بين الثلاثي الطوائفي المعني على عدم طرح ملف الاستراتيجية الدفاعية إطلاقاً وعلى تسهيل دور «حزب الله» الأمني، بما في ذلك القتال في سوريا.

وبالتأكيد، لا يريد «الحزب» تسليم سلاحه إلّا لدولة يكون هو ركيزتها الأساسية وله فيها القرار، أي إنه لن يسلّم سلاحه إلّا لنفسه. وثمة مَن يعتقد أنه يفضل الانضمام إلى الدولة في شكل لواء مستقل، ولكن معترف به كجهاز رسمي، وفق نموذج «الحشد الشعبي» في العراق.

في ظلّ هذا المنطق، لا يمكن إلّا أن تنشأ دينامية سنّية مقابلة. والنازحون سيكونون جزءاً منها على الأرجح. وللتذكير، كانت تُطلَق على الفلسطينيين في بعض مراحل الحرب الأهلية تسمية «جيش السنّة». وينبغي التوقف عند هذه التسمية وظروفها بمعزل عن مدى الدقّة والصواب فيها، والتفكير في ما يمكن أن تؤدي إليه التحديات الجديدة في ملف الوجود الفلسطيني والسوري.

لن يتحمّل لبنان الحالي هذا الضغط الإقليمي الناتج عن نجاح صفقةٍ في الملف الفلسطيني أو فشل صفقة في الملف السوري. وسيصيبه التجاذب الداخلي بالتمزُّق. وقد يموت لبنان «الحالي» تدريجاً، و«على الواقف»، بحيث لا يشعر أحد بهذا الموت… ولا حتى لبنان نفسه!