في مدخل مكتبه في شارع بلس، يستقبلك الرئيس فؤاد السنيورة، وخلفه لوحة بالخطّ العربي لأبي الطيب المتنبي: "وحالات الزمان عليك شتّى.. وحالك واحد في كلّ حال". يسارع الرجل إلى الاستعانة بهذا البيت للإجابة على سؤال حول أحوال وأهوال البلاد والعباد. ينطبق البيت على أحوال العرب من المحيط إلى الخليج بالنسبة إليه، وهو المهجوس بضرورة تعزيز مفهوم العروبة المتزنة، بمواجهة جنون الطوائف والمذاهب، والذي ينعكس جنوناً في الممارسة السياسية. ولأن الزمن يجور، وتتغير أحواله، يشدد السنيورة على وجوب الوقوف بثبات، فلا بد للمرء أن يحفظ نفسه من هذا الجنون، وليس إذا ما جنّ البعض على الجميع أن يجنّ".

الجنون والتبصر
يحرص الرجل على متابعة كل الملفات عربياً وإقليمياً، مستخلصاً، أن لا بديل عن هذا الجنون إلا سياسة عربية وطنية ومعتدلة، لا أساس فيها لصراع الطوائف والمذاهب، ولا لمعارك الأحقاد، التي تقود أصحابها إلى جنون العظمة العائدة 1400 سنة إلى الوراء. بهدوء يناقش التحولات، لا يثق على الإطلاق بالأميركيين ويقول بشكل مباشر: "لا يمكن الوثوق بهم ولا الرهان عليهم". ينظر إلى الوضع المتأجج في الخليج، مبدياً خشيته من لحظة جنون، قد تدفع الرؤوس الحامية إلى تفجير المنطقة، وفق معادلة الجنون وعدم الإحتساب. أما في القراءة الواقعية والهادئة، فلا بد لهذا التصعيد أن ينتهي بشكل أو بآخر على طاولة المفاوضات. قد يحدث ذلك إما سلماً أو بعد ضربة محدودة. لا أحد يعرف كيف سيتم تحديدها أو تأطيرها أو ضبطها.

حال لبنان من حال الوضع الإقليمي. فالترهل يجرّ الترهل، والذي يبدو متجلياً في المراس السياسي هذه الأيام، على نحو تغيب فيه أي وقائع عقلانية في متابعة الملفات. لكن السنيورة يبدو مصرّاً على الهدوء والتعقّل والتبصر، لأجل معالجة الوضع القائم، ويقول: "لا يمكن معالجة المشاكل بالمراهم والتسويات، لأن حجم المشاكل أصبح كبيراً جداً، ويجب أن لا ننساق إلى معارك مذهبية وطائفية، لأن هذه المعارك تزيد من تعميق المشكلة. لا نريد رفع لواء سنّي في مواجهة سياسية، بل يجب تعزيز المفهوم الوطني".

يجزم السنيورة بأن العبرة مما حصل في الفترة الأخيرة ستكون في العمل العقلاني، من أجل إعادة تحصين الدولة ومؤسساتها، وإعادة الاعتبار لها، على الضد من استسهال القفز فوقها كما يقترفه بعض الأطراف التي تستشعر قوة مقابل ضعف لدى الآخرين. وهذا التغير في السلوك يجب أن يظهر مستقبلاً في مقاربة مختلف الملفات والمسائل، لا سيما بعد وحدة الموقف خلف رئيس الحكومة سعد الحريري. وهذا الموقف دفع الآخرين إلى الأخذ في الحسبان أن شيئاً لم يعد يمرّ كما كان يمرّ في السابق. وهذا ما أوضحه الرئيس سعد الحريري أيضاً في مواقفه الأخيرة، والذي من المفترض أن يقترن بتصرفات عملانية.

إدارة "التسوية"
عنوان "تعزيز المفهوم الوطني" في نظر السنيورة، لن يكون بعيداً عن التجربة التي خاضتها قوى 14 آذار في مرحلة من المراحل، من دون عزل أي طرف. هذا العنوان كفيل بحماية التنوع والمؤسسات، وعدم اختزال البلاد بشخص واحد أو بطرف واحد.

عمل السنيورة الذي تجلّى في لقاءات رؤساء الحكومات السابقين، لم يكن على ما يبدو يتيماً أو وحيداً. على الأغلب، الرجل يتابع أنشطته بالكثير من الحيوية، التي تبدو بعيدة من الإعلام والإعلان. وهو الذي يقول دوماً: "واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان". وفي موازاة تحرّك رؤساء الحكومات السابقين، ثمة لقاءات أخرى يجريها السنيورة، بينها اللقاء الذي عقد قبل أسابيع مع رئيس الحزب التقدمي وليد جنبلاط، من دون الإفصاح عن مضمون هذا اللقاء.

أصيبت تجربة 14 آذار بمقتل الحسابات السياسية، وبفعل مناورات متعددة من قبل أفرقائها المتنوعين، لكن السنيورة يؤكد: "أن الخطأ الكبير تجلى بالمناورة في المبادئ، وأنا ضد هذه الأشكال من المناورات، من يناور بإمكانه أن يفعل ذلك بالتكتيك وليس بالجوهر والمبدأ، وحتى وإن أردت أن أكون براغماتياً، لا بد من الحفاظ على بعض الثوابت، مع عدم التساهل في بعض المسلمات، خصوصاً أن الطريقة التي تتم فيها إدارة التسوية تؤدي إلى التمادي بالاستقواء من قبل باسيل ورئيس الجمهورية".

باسيل رئيساً؟
يعرف السنيورة أن المرحلة دقيقة، وتفرض على من يقودها أن يتصرف وكأن هناك جمرة في يديه. ما يفترض عناية ودراية في كيفية حملها لتجنّب حريقها. وأي كلام علني أو موقف سياسي يستوجب أن يكون سحباً لفتيل أزمة، وتبصراً في منع أي توتر، وتحسباً لكل مشكلة وكيفية مواجهتها. مشدداً على أن المبدأ الأساس يبقى لتصويب البوصلة. وجهة البوصلة الصحيحة، والاتصاف بالتعقل والزهد الوطني هو الذي سيحمي موقع رئاسة الحكومة. وهو الذي يحفظ دورها ومكانتها ووجهتها وإلى أين تؤول.

ولدى سؤاله عما اذا كان يرى باسيل رئيساً للجمهورية في المستقبل، يستبعد السنيورة ذلك، معتبراً أن "الرئيس في لبنان تنتجه الظروف وجملة عوامل داخلية وخارجية. لكن باسيل يسير عكس المنطق التوافقي، الذي يحتاجه للوصول إلى الرئاسة. ولا يبدو أن أحداً سيكون متجاوباً مع وصوله إلى الرئاسة الأولى.. لأنه عصيّ على الهضم". يبقى هذا الكلام في اطار التقدير السياسي المنطقي وقراءة الواقع حالياً.