لماذا لا تحيّد إيران نفسها عن مشاكل العالم والمنطقة وتهتمّ بإيران أوّلا، بدل الاعتقاد أنّ الوسيلة الوحيدة لبقاء النظام والدفاع عنه تتمثل في الهرب المستمرّ إلى الخارج تحت شعار تصدير الثورة؟
 

الاعتراف بالفشل ليس عيبا. يطرح هذا السؤال نفسه بعدما بدأت إيران تتصرف كدولة عظمى وتتحدّى يمينا ويسارا متجاهلة تجارب التاريخ القريب، بما في ذلك نتائج الحرب العالمية الثانية. ما نتيجة توصل إيران إلى وقف تدفق النفط في اتجاه الأسواق العالمية عبر طرق الملاحة في الخليج وعبر مضيق هرمز تحديدا… علما أنّها لن تتمكن من ذلك بأي شكل من الأشكال؟

الجواب أنّ ذلك لن يوصلها إلى أي مكان ولن يكون له أيّ مردود إيجابي على استقرار المنطقة ولا على الداخل الإيراني حيث وضع المواطن العادي يتدهور، يوما بعد يوم، على كلّ الصعد. يكفي في نهاية المطاف النظر إلى الدول التي تلعب دور الوسيط بين إيران وأميركا في هذه الأيّام للتأكد من أن هناك حاجة إلى العودة إلى المنطق، إلى تجارب ألمانيا واليابان وسويسرا. تمثل سويسرا الدولة التي ترعى المصالح الأميركية في طهران وذلك بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في العام 1979.

هناك عقلية معروفة تتحكّم بالنظام القائم في إيران الذي يسعى إلى لعب دور “شرطي الخليج” تماما كما كانت عليه الحال في عهد الشاه. ما تغيّر في إيران منذ الإعلان عن قيام “الجمهورية الإسلامية” قبل أربعين عاما هو مزيد من العدائية تجاه كلّ ما هو عربي في المنطقة. يضاف إلى ذلك الاعتقاد أنّ هناك نموذجا جديدا يمكن تقديمه إلى دول الجوار، في حين أن لا وجود لمثل هذا النموذج، باستثناء أن إيران باتت أكثر استعدادا مما كانت عليه في أيام الشاه للاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية.

إذا نظرت إيران إلى كل من ألمانيا واليابان وسويسرا، ستجد أسبابا كافية لتحقيق انتصار عبر التراجع عن الأوهام القائمة لدى الذين حكموها في السنوات الأربعين الأخيرة. يُفترض بإيران أن تنتصر على نفسها أوّلا، أي على الأوهام التي خلقتها لنفسها والتي أوصلتها إلى ما وصلت إليه في كلّ مجالات التخلّف والبؤس والعداء المتبادل مع جيرانها العرب أوّلا.

من خلال النظر إلى ألمانيا التي جاء وزير خارجيتها هايكو ماس إلى طهران حديثا، كان يمكن للمسؤولين الإيرانيين، على رأسهم “المرشد” علي خامنئي، طرح سؤال في غاية البساطة. أين إيران وأين ألمانيا؟ لا يعني هذا السؤال في طبيعة الحال إجراء مقارنة بين الاقتصادين الألماني والإيراني، بمقدار ما أنّه يعني كيف استطاعت ألمانيا الاستفادة من تخلّيها عن الأوهام التي روّج لها أدولف هتلر تمهيدا لدخول مصاف الدول الراقية؟

كانت ألمانيا قوّة عسكرية واقتصادية كبيرة قبل الحرب العالمية الثانية. استطاع هتلر استخدام تلك القوّة من أجل التوسّع أوروبيا في كلّ الاتجاهات. تجاوز حتّى حدود أوروبا. ليست معركة العلمين، التي تواجه فيها مونتغمري مع رومل في شمال إفريقيا، سوى أحد الدلائل على ذلك. انتهت الحرب العالمية الثانية باستسلام ألمانيا التي قرّرت أخيرا الاستغناء عن الأوهام وأحلام اليقظة والتي لم يكن لديها ما تصدّره إلى العالم غير أفكار عنصرية لا علاقة لها بحسن الجوار والقيم الإنسانية. كانت النتيجة أن تصالحت ألمانيا مع نفسها ومع محيطها وصارت دولة مزدهرة من دول العالم التي تسعى من أجل السلام والاستقرار. أكثر من ذلك، انتصرت برلين الغربية على برلين الشرقية وسقط جدار برلين، الذي لم يكن سوى جدار العار وتوحّدت ألمانيا مجددا. لماذا لا تتعلّم إيران شيئا من التجربة الألمانية. هل تحتاج إلى حرب جديدة في المنطقة كي تُقْدم على نقلة نوعية في اتجاه التحوّل إلى دولة طبيعية تهتمّ بشؤون مواطنيها ورفاههم، بدل نشر البؤس والخراب في لبنان وسوريا والعراق واليمن على سبيل المثال وليس الحصر…

ما ينطبق على ألمانيا ينطبق على اليابان التي توسّط رئيس الوزراء فيها شينزو آبي مع إيران مباشرة بعد زيارة قام بها الرئيس دونالد ترامب لطوكيو. هزمت أميركا اليابان في الحرب العالمية الثانية، بل يمكن القول إن تحرّش اليابان بأميركا في بيرل هاربر، في السابع من كانون الأوّل – ديسمبر 1941، كان وراء الدخول الأميركي المباشر في الحرب العالمية الثانية ولعبها الدور الحاسم في هزيمة ألمانيا. أكثر من ذلك، أصرّت الولايات المتّحدة على استخدام القنبلة النووية في المواجهة مع اليابان، علما أنّه لم تكن من حاجة إلى تدمير هيروشيما وناغازاكي كي يحصل الاستسلام الياباني من دون قيد أو شرط. لكنّ الولايات المتحدة قرّرت تأديب اليابان كي لا تحلم يوما بتكرار الهجوم المفاجئ على بيرل هاربر الذي دّمر جزءا كبيرا من القوّة البحرية الأميركية وخلّف آلاف الضحايا في غضون ساعات قليلة.

ماذا فعلت اليابان بهزيمتها وفشل سياستها الإمبريالية؟ أعادت بناء نفسها وانتصرت على نفسها، تماما كما فعلت ألمانيا، وتحولّت إلى قصة نجاح اقتصادي سارت على دربه دول عدّة في العالم، بما في ذلك كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وحتّى الصين.

حسنا، إذا كانت لدى إيران عقدة ألمانيا واليابان، ماذا عن سويسرا التي صارت من أغنى دول العالم، على الرغم من عدم امتلاكها أي ثروات طبيعية. لم تستطع إيران تطوير الإنسان الإيراني على الرغم من كلّ ما تمتلكه من ثروات. أين كان المجتمع الإيراني في عهد الشاه وأين صار الآن؟ لماذا لا تحيّد إيران نفسها عن مشاكل العالم والمنطقة وتهتمّ بإيران أوّلا، بدل الاعتقاد أنّ الوسيلة الوحيدة لبقاء النظام والدفاع عنه تتمثل في الهرب المستمرّ إلى الخارج تحت شعار “تصدير الثورة”؟ ما الإنجاز الذي حققته الثورة كي يصبح في الإمكان خلق مادة أو فكرة قابلة للتصدير؟

في كلّ الأحوال، تظل التجربة السوفياتية أهمّ ما تستطيع إيران أن تتعلّم منه. من لا يمتلك اقتصادا متينا لا يستطيع أن يكون قوّة إمبريالية. كان الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية موجودا في العالم كلّه. كان موجودا في اليمن أيضا. كان اليمن الجنوبي مجرد جرم يدور في الفلك السوفياتي. كان الاتحاد السوفياتي في إثيوبيا أيضا. كانت أوروبا الشرقية كلّها تدار من موسكو. لماذا تحررت ألمانيا الشرقية وبولندا وتشيكوسلوفاكيا (أصبحت دولتين لاحقا) وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا؟

لم تنفع الجيوش الكبيرة ولا القنابل النووية ولا الصواريخ العابرة للقارات في بقاء الاتحاد السوفياتي. سقط الاتحاد السوفياتي سقوطا عظيما، وكان الاقتصاد الهشّ غير المنتج سرّ سقوطه.

لا حاجة إلى الإتيان بأمثلة أخرى تستطيع إيران التعلّم منها في حال كان مطلوبا أن تتصالح مع نفسها ومع محيطها قبل أن تتصالح مع أميركا… أقلّه من أجل ضمان مستقبل أفضل للشعب الإيراني ولفكرة الاستقرار في المنطقة. الخطوة الأولى في هذا المجال تكون بالبناء على الفشل. ألم تبن ألمانيا واليابان على فشلهما؟ ألم تبن سويسرا على ثروة الإنسان أوّلا وأخيرا؟