إنّ التنبيه والتحذير من مخاطر الخطابات العنصرية، والتي تتعاظم هذه الأيام، بات واجباً عينياً على كل غيور على مصلحة لبنان، لبنان الرسالة، لبنان الحضارة والمدنية، لا لبنان التقوقع والانعزالية والظلامية.
 

لم يشهد لبنان في تاريخه الحديث والمعاصر موجة عنصرية وكراهية شديدة مُوجّهة للشعب السوري عامّة، والنازحين منهم إلى لبنان خاصّةً، كما يشهدها هذه الأيام، وهي موجة لم يعُد يخجل مُطلوقوها من نسبتها لهم، حتى وصل الأمر عند بعضهم الإعتزاز والافتخار بها، ولو اقتصر الأمر على عامّة اللبنانيين لهان الأمر، وجاء مُبرّراً، أو مقبولاً في بعض الأحيان، إلاّ أنّه عندما يصدر عن جهاتٍ رسمية وشخصيات حزبية أدمنت الطائفية والعنصرية الزائدة والانعزالية، فهذا يستدعي وقفة خاصة لإعادة توضيح بعض المفاهيم والحقائق التاريخية، والجهر برسالة لبنان الأصيلة، وهي تتركز في الانفتاح وقبول الآخر، والاستنارة ونبذ التّعصُّب والكراهية، خاصة اتجاه الشعب السوري الذي تربطه بالشعب اللبناني وشائج عدّة، وسائر الشعوب العربية، فكان أول رئيس جمهورية لبنانية بعد الإستقلال الراحل بشارة الخوري قد حرص على تقوية علاقات لبنان مع الدول العربية، فوقّع عام ١٩٤٤ اتفاق الإسكندرية الذي مهّد لقيام الجامعة العربية، كما وقّع عام ١٩٤٥ ميثاق الأمم المتحدة، وساهم وزير الخارجية شارل مالك في صياغة وثيقة حقوق الإنسان، بالمقابل لطالما كانت أفكار الانعزال عن العالم العربي والتّقوقع في "قومية لبنانية" صرفة، أي عنصرية سبب البلاء المتواصل على هذا البلد المتنوع والمتعدد الطوائف والنوازع والايديولوجيات، وكي نُطمئن بعض" العنصريّين" اليوم، نرى من الواجب تذكيرهم بتراث فئات مسيحية واسعة، كانت ترى في ضمان الوجود المسيحي في المشرق العربي أن يشمل ولاؤها الرقعة السورية بأكملها، ذلك أنّ الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك من اللبنانيين كان لهم الكثير من الإخوان في مختلف المناطق السورية منذ عهد المتصرفية، كما كان للموارنة إخوانٌ في حلب وغيرها من المدن السورية الكبرى كما يذكر كمال صليبي في كتابه تاريخ لبنان الحديث(دار النهار ط،١٩٦٤)، وكان لكلًّ من هذه الطوائف الثلاث نظامٌ كنسي، يرتكز على الكرسي الأنطاكي المشتمل على جميع الأنحاء السورية ما عدا فلسطين، التابعة لكرسي القدس، وكان هذا وحده كافياً لتوحيد قضية المسيحيين في الولايات السورية جميعاً، وتبلورت فكرة القومية السورية التي تتخطّى الاعتبارات الدينية والطائفية لاحتضان المسلمين والمسيحيين السوريين على السواء، وكان من مقاصد هذه القومية العلمانية القائمة على اللغة العربيه والتراث الثقافي بين السوريين جميعاً، أن تغدو الضمان الأكبر للمسيحيين في البلاد.

إقرأ أيضًا: اللواء السيد والفساد المستشري ومحمد بن سلمان

وكان أول من نادى بالفكرة القومية رواد النهضة الأدبية العربية، وفي طليعتهم المفكر البحاثة بطرس البستاني، الذي أصدر الصحيفة الأسبوعية "نفير سوريا"، ودعا إلى التآخي بين مسيحيّي سوريا ومُسلميها، كما أصدر البستاني مجلة "الجنان" وجعل شعارها "حُبّ الوطن من الإيمان "، وكانت عبارة الوطن عند البستاني ورفاقه تعني سوريا. وما لبثت فكرة القومية السورية أن تطورت شيئاً فشيئاً إلى "عروبة" المفكرين اللاحقين من المسيحيين اللبنانيين أمثال إبراهيم اليازجي ويعقوب صروف وفارس نمر.

الأرجح أنّ هذه العودة التاريخية والثقافية لا تشفي غليل المتعصبين وحاملي خطاب الكراهية بوجه الشعبين الفلسطيني والسوري، إلاّ أنّ التنبيه والتحذير من مخاطر الخطابات العنصرية، والتي تتعاظم هذه الأيام، بات واجباً عينياً على كل غيور على مصلحة لبنان، لبنان الرسالة، لبنان الحضارة والمدنية، لا لبنان التقوقع والانعزالية والظلامية.

قديماً قال الجاحظ في نقد "الشعوبية" أي العنصرية بلغة أيامنا: واعلم أنّك لم تر قوماً قطُّ أشقى من هؤلاء الشعوبية، ولا أعدى على دينه، ولا أشدّ استهلاكاً لعرضه، ولا أطول نَصَباً، ولا أقل غُنماً، من أهل هذه النِّحلة، وقد شفى الصدور منهم طولُ جثوم الحسد على أكبادهم، وتوقّد نار الشنآن في قلوبهم،  وغليان تلك المراجل الفائرة،  وتسعُّر تلك النيران المضطرمة،  ولو عرفوا أخلاق كل مِلّة، وزِيّ كل لغة، وعللهم في اختلاف إشاراتهم وآلاتهم، وشمائلهم وهيآتهم، وما علّةُ كل شيء من ذلك، ولِمَ اختلقوه  ولِم تكلّفوه، لأراحوا أنفسهم، وتخفّفت مؤنتهم على من خالطهم.