يوم أقرت الحكومة، في إحدى جلساتها، فتح دورة التراخيص الجديدة لتلزيم البلوكات النفطية شمالاً (1 و2)، تلقى لبنان رسالة روسية حينها بأن موسكو ستتكفل بتوفير ضمانة من النظام السوري، لتسهيل ترسيم المناطق الحدودية غير المحددة حتى الآن، خصوصاً أن هناك خلافاً لبنانياً سورياً حولها. وهذا الخلاف يعود للسبب نفسه في الترسيم البحري مع إسرائيل: من أي نقطة سيبدأ الترسيم من البر باتجاه البحر. الحدود كما هي اليوم وبفعل أمر واقع سيطرة سوريا عليها، تمتد على خطّ مباشر من منتصف النهر الكبير، باتجاه الأراضي السورية، بينما لبنان يعترض على هذا الواقع، ويطالب بانطلاق الترسيم من نقطة أبعد تجاه سوريا.

رسالة سورية 

وبمعنى أوضح، فإن المنطقة التي يقع فيها البلوك رقم 2، وبالنظر إلى الخريطة، يمكن مشاهدة منحدر في صلب هذا البلوك. من هذا المنحدر يريد النظام السوري أن تنطلق عملية الترسيم، بينما الخرائط الدولية التي عمل لبنان على تصحيحها. وهذه من شأنها أن تغير كثيراً وفق القوانين الدولية. وبراً، عمل النظام السوري على رفع السواتر الترابية على الحدود، إلا أنه مع ارتفاع منسوب النهر في الشتاء، تنجرف التربة باتجاه الأراضي اللبنانية، ما يغيّر واقع الحدود البرية، التي ستنعكس حكماً على الترسيم البحري. 

قبل أيام، تلقى لبنان رسالة سورية، كشفها وزير الدفاع الياس بو صعب، فحواها استعداد دمشق للبدء بعملية ترسيم الحدود. وتضيف معلومات أخرى أن هذه العملية ستكون برعاية روسيا، التي تشترك شركاتها بعمليات التنقيب عن النفط في لبنان، وحصلت مؤخراً على التزام إصلاح واستثمار خزانات النفط في طرابلس. وعلى وقع هذه الرسالة، يصل وفد روسي إلى لبنان، للبحث بملف اللاجئين السوريين وتوفير عودتهم، كما أنه سيبحث في ملف ترسيم الحدود مع سوريا.

العرقلة المتعمدة جنوباً

واللافت أن التحرك الروسي السوري جاء بعد مساعي أميركية من أجل البدء بمفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل. المساعي جنوباً لا تزال تتراوح بين الإيجابية حيناً والسلبية أحياناً. إذ يعلن لبنان تمسكه بحقوقه كاملة وعدم التنازل عن أي شبر منها، فيما يستعجل الطرفان الأميركي والإسرائيلي إنجاز عملية الترسيم. إلا أن الحكومة اللبنانية، وخصوصاً منها الأفرقاء المتحالفين مع دمشق، يمارسون الحذر والتروي، ربما التزاماً بـ"مبدأ وحدة المسار والمصير"، وحرصاً على ربط الملفات ببعضها البعض وعدم فصلها أو تفريقها. بمعنى أن عملية الترسيم البحري جنوباً قد تتعرقل إذا ما دعت الحاجة. وعنوان عرقلتها سيكون بلا شك ملف مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. وهذه معضلة لا يمكن حلّها من دون إدخال سوريا في لعبة المفاوضات. وهنا لا بد من التذكير بالتكيك السياسي الذي اتُبع في العام 2006، عندما أقرت طاولة الحوار مبدأ تحديد الحدود (ترسيمها) بما يسهل توسيع القرار 425 ليشمل مزارع شبعا، فجاء الجواب من دمشق بأن عملية الترسيم يجب أن تبدأ أقصى الشمال، من النهر الكبير، ثم البقاع وأخيراً الجنوب، للهدف ذاته الذي يبرز الآن، أن تبقى سوريا ممسكة بمصير حدود لبنان..

تدويل ملف الحدود 

بهذا المعنى، لا يمكن الفصل بين الرسالة السورية، وبين المساعي الأميركية للترسيم جنوباً، خصوصاً أن النظام السوري ثابر باستمرار على منع لبنان من المفاوضة وحيداً، فـ"وحدة المسار والمصير" لا تزال قائمة بالنسبة إلى الأسد، حتى وإن ظهر راهناً وكأن هناك بعض الاستقلالية اللبنانية أثناء المشاورات والجولات التي يقوم بها ديفيد ساترفيلد. لكن في النهاية، فإن أول حبل التفاوض وعقدته لا يزالان بيد سوريا.

بالنسبة للنظام السوري، لن يكون بإمكان لبنان إبرام اتفاق مع إسرائيل قبل الاتفاق على ترسيم الحدود مع سوريا، خصوصاً في المناطق الجنوبية، وتحديداً مزارع شبعا وتلال كفر شوبا (وهو ما تتمنع عنه سوريا باستمرار). لكن إنجاز عملية الترسيم إن حدث سيكون مشروطاً - والحال هذه - بسلّة توافقات سياسية تكون سوريا في صلبها، تماماً كما كان الحال سائداً منذ العام 1973. وانطلاقاً من هذا الربط أو تلازم المسارين، أرسل النظام السوري إشارة إلى الاستعداد ببدء مفاوضات لبنانية سورية لترسيم الحدود البحرية في الشمال.

هذه المعادلة توضح مدى تدويل "الملفات اللبنانية الاستراتيجية"، فتلك اللعبة التي كان يتحكم بها الإسرائيلي والسوري منذ العام 1973 إلى اليوم، أصبحت على ما يبدو في عهدة موسكو وواشنطن وعنايتهما. وما بينهما من تقاطعات أو اختلافات، هي التي ستحدد كيفية سير عملية الترسيم ووصولها إلى خواتيمها.