هناك مَن يعتبر أنّ «التيار الوطني الحر» أسّس لخطٍّ سياسي جديد داخل البيئة المسيحية يبدأ من التحالف مع «حزب الله» ولا ينتهي بتشجيع تحالف الأقليات، وأنّ ممارسته شكّلت انقلاباً على الدور المسيحي التاريخي.
 

يخطئ هذا البعض في توصيفه الحالة العونيّة بأنها حالة أيديولوجية وتتميّز عن الحالة نفسها التي تتبنّى الخط نفسه تاريخياً بكونها حالة شعبية فريدة من نوعها داخل البيئة المسيحية، إذ إنّ الخط الأيديولوجي الذي لا يتبنّى اللبننة بمفهومها الفلسفي والحضاري والنهائي شكل تاريخياً حالة أقلوية إلى أن وقّع «التيار الحر» وثيقة التفاهم مع «حزب الله» في العام 2006 مشكّلاً رافعة شعبية إستثنائية لهذا الخط.

ولكنّ تفاهم 6 شباط 2006 لا يختصر تاريخ «التيار الوطني الحر»، إذ إنّ هناك ما قبل هذا التفاهم وما بعده، ولا يجوز توصيف حالة سياسية تأسيساً على محطة واحدة ضمن تاريخها السياسي، إلّا أنّ الخطأ في التوصيف مردّه موضوعياً إلى جمود أصحابه عند حدود تحالف «مار مخايل»، فيما الحالة العونيّة لم تظهر على حقيقتها الفعلية سوى بعد التسوية الرئاسية، وبالتالي الخطأ التوصيفي قبل هذه التسوية كان مبرَّراً لأنه يمكن لأيِّ فريق سياسي أن يناقض الأهداف التي تأسّس عليها، وهذا ما يفسِّر التحوّل الجذري من الخطاب اللبناني السيادي التاريخي ما بين عامي 1988 و2006، إلى الخطاب الذي ينسف كل مبدأ الحياد ومركزيّة الدولة بقرارها الاستراتيجي.

فتغيير الإقتناعات هو حق لكل فرد أو جماعة، ومن هذا المنطلق كان يصعب إعطاء توصيف دقيق للحالة العونية قبل انتقالها إلى الصيغة أو المرحلة الثالثة في مسارها التاريخي: المرحلة الأولى تبدأ مع ترؤس العماد ميشال عون الحكومة الإنتقالية في العام 1988 وتنتهي مع توقيعه وثيقة التفاهم في شباط 2006، والمرحلة الثانية تبدأ من 6 شباط 2006 وتنتهي موضوعياً مع التسوية الرئاسية وانتخاب عون رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول 2016، والمرحلة الثالثة بدأت مع انتخاب عون وما زالت مستمرة.

ففي المرحلتين الأولى والثانية كان «التيار الوطني الحر» في موقعين متناقضين تماماً، وتوصيفه بأنه شكّل في المرحلة الثانية رأس حربة للخط المناهض للشرعية المسيحية التاريخية المؤسسة للكيان اللبناني كان في محله، ولكن لا يمكن مواصلة التوصيف نفسه بعد انتقال الحالة العونيّة إلى المرحلة الثالثة في مسارها التاريخي، لأنّ ما كان يصحّ في المرحلة الثانية لم يعد يصحّ في المرحلة الثالثة.

وقد ظهرت الحالة العونيّة في تطورها الأخير على حقيقتها بأنها ليست حركة تغييرية داخل البيئة المسيحية، تموضعها السياسي ليس مرتبطاً بإقتناعات فكرية ومبدئية وأيديولوجية، إنما يتصل بأولويتها السلطوية التي تشكل القاعدة الأساسية التي على أساسها تُحاك التحالفات وتتبدل التموضعات، وإلّا لا يوجد ما يفسّر التحوّلَ الجذري بين المرحلة الأولى والثانية، والإنتقال الى خط وسطي أو مصلحي في المرحلة الثالثة.

والفارق مثلاً بين «القوات اللبنانية» وتيار «المردة» على اختلافهما الاستراتيجي من جهة، و«التيار الوطني الحر» من جهة أخرى، أنّ الحركة السياسية لـ«القوات» و«المردة» ترتبط بمشروع سياسي وإقتناعات فكرية ورؤية وطنية، ويسعيان الى تطبيقها بواقعية سياسية، فيما المحرِّك الأساس لـ«التيار الحر» هدفيته السلطوية.

والفارق الجوهري مثلاً بين «القوات» و«التيار الحر» يتمثّل باعتقاد الفريق الأول أنّ الخط التقليدي السلطوي المسيحي يتحمّل مسؤولية ما آل إليه الوضع في لبنان من حروب وويلات وكوارث، كان يمكن تجنّبها لولا تلهي الخط التقليدي بالسلطة وتبديتها على الأولويات الوجودية والكيانية والاستراتيجية، ومن هنا ضرورة وجود خط سياسي غير تقليدي يرى في السلطة ضماناً للوجود والدولة والكيان وليس ضماناً لأدوار شخصية زبائنية، فيما الفريق الثاني يشكل استمراراً للخط المؤسّس، ليس ببعده الجزئي اللبناني والكياني، وإنما ببعده الكلي السلطوي الذي يشكل الهدف الأول والأخير في حركيته السياسية.

فلا يمكن فهم الحالة العونية سوى في صيغتها الثالثة التي أظهرتها على حقيقتها، فهي لا تملك مشروعاً محدَّداً للبنان ورؤية وطنية للحلم اللبناني، بل ينحصر همُّها في طريقة إرضاء الحالة الشيعية بامتدادها الإقليمي، وإرضاء الحالة السنّية بامتدادها الإقليمي، لأنها تدرك انّ أيّ صدام مع «حزب الله» او «المستقبل» يقطع طريق استمرارها في القصر الجمهوري، هذا الاستمرار الذي تسعى إلى تأمينه، وبالتالي ينحصر همّها في طريقة إرضاء الطرفين، وما يسعفها أنّ «الحزب» لا يريد الصدام مع «المستقبل»، الأمر الذي يسهِّل عليها مهمة الحفاظ على القنوات المفتوحة والتوازن بين أولويات «حزب الله» وأولويات «المستقبل».

ولأنّ «التيار الوطني الحر» لا يجد نفسَه إلّا في موقع رأس الحربة، وذلك من رأس حربة في مواجهة النظام السوري وكل محور الممانعة، إلى رأس حربة في مواجهة 14 آذار، ولأنّ أهدافه الرئاسية تحول دون استمراره في دور رأس الحربة، نجده في موقع المتنقِّل من مواجهة إلى أخرى وبشكل محسوب ليحافظ على أسلوبه الذي يعتقد أنه كان وراء شعبيته المسيحية، ولكنه سيكتشف قريباً أنّ هذا الأسلوب فقد بريقه وسيتحوّل من عامل إيجابي إلى سلبي، لأنه مزعزع للإستقرار ولا يتلاءم مع تطلعات الناس التي تريد ترجمات لا شعارات خصوصاً ممَّن وصل الى السلطة ولم يبدِّل شيئاً في بنية الدولة وإتجاهاتها، كما لم يترجم بما وعد الناس بتحقيقه.

ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل الخط العوني بصيغته الثالثة التقليدية التي تبدّي عامل السلطة على أيّ اعتبار آخر هو ما يريده الرأي العام المسيحي؟ وهل هذا الخط قادر على تجسيد الرؤية الوطنية المسيحية في دولة فعلية تزاوج بين نهائية الكيان وسيادته، وبين ميثاقيته وشراكته الفعلية المسيحية -الإسلامية؟ وهل هذا الخط يشكل الضمان لاستمرارية الدور الوطني المسيحي على قواعد الميثاق والشراكة؟ وهل هذا الخط يجسّد تطلّعات المواطن اللبناني في بناء دولة الحق والعدالة التي تعطي لكل مواطن حقه وفرصته بعيداً عن الاستزلام والزبائنية ووفقاً لقواعد الدستور والقانون والمؤسسات والكفاية والجدارة؟