قبل اتخاذ قرار بمقاطعة مؤتمر المنامة، من الضروري تذكّر مؤتمر مدريد حيث لم يكن هناك علم فلسطين. إضافة إلى العودة بالذاكرة إلى مؤتمر مدريد والظروف الإقليمية والدولية التي أحاطت به، يبدو أكثر من ضروري التفكير بما يدور في المنطقة.
 

أيّا تكن طبيعة ما يسمّى “صفقة القرن” التي تعد بها إدارة دونالد ترامب، يبدو خيار السلطة الوطنية الفلسطينية القاضي بمقاطعة مؤتمر البحرين، ذي الطابع الاقتصادي والمتوقع عقده قريبا، من النوع الذي يصعب فهمه أو استيعابه. تندرج مثل هذه المقاطعة، لصفقة لم تعلن تفاصيلها بعد وقد لا ترى النور يوما، في سياق العجز الفلسطيني عن اتخاذ أي قرار من أيّ نوع كان باستثناء الهرب من الواقع إلى نوع من العزلة.

هناك بكل صراحة مشكلة اسمها السلطة الوطنية التي تريد العودة بالفلسطينيين إلى تلك الأيّام التي كانت سمتها الأساسية إضاعة الفرص، وتمكين إسرائيل من الاستفادة من حال الفراغ. هذا لا يعني، من دون أدنى شكّ، أن “صفقة القرن” تمثّل فرصة ما للفلسطينيين على طريق بناء دولتهم المستقلة التي يحلمون بها. على العكس من ذلك، تبدو “صفقة القرن”، أقلّه من خلال الخطوط العريضة التي كُشف عنها أخيرا، بمثابة محاولة لاستبدال الحل الاقتصادي بالحل السياسي الذي في أساسه خيار الدولتين.

ليس مؤتمر البحرين سوى “ورشة عمل اقتصادية” ليس مسموحا للفلسطينيين الغياب عنها في حال كان في نيتهم معرفة ما الذي يحاك لهم. أخرجوا نفسهم، بكل بساطة، من لعبة تهمّهم أوّلا وأخيرا. لم يفهموا، على سبيل المثال وليس الحصر، لماذا قرّر الأردن المشاركة في مؤتمر البحرين، على الرغم من اعتراض المملكة الهاشمية على كلّ ما تمثّله “صفقة القرن”. هناك ذكاء أردني ونظرة ذات طابع استراتيجي إلى ما يدور في المنطقة تفرض المشاركة في مؤتمر البحرين.

تسمح مثل هذه المشاركة للأردن بمعرفة ما يدور في الكواليس وكيف يدافع عن مصالحه الوطنية في حال كان هناك من يريد المس بهذه المصالح أو بحقوقه الوطنية. ليس معروفا، إلى الآن، لماذا لا تستفيد السلطة الوطنية من التجربة الأردنية في وقت لم يوفّر الملك عبدالله الثاني مناسبة إلا وتحدّث فيها عن أهمّية القضية الفلسطينية، وضرورة العودة إلى خيار الدولتين في حال كان مطلوبا ضمان الاستقرار الإقليمي.

لا يعبّر القرار الفلسطيني بمقاطعة مؤتمر البحرين سوى عن إفلاس للسلطة الوطنية على كلّ صعيد. إنّه خيار الاستسلام أمام الأحداث بدل التفاعل معها والسعي إلى إيجاد ثغرات يمكن أن توفّر اختراقات في اتجاه الحل السياسي مستقبلا. فما ليس مفهوما بأي شكل كيف يمكن للسلطة الوطنية الفلسطينية قطع العلاقات مع الإدارة الأميركية على الرغم من كلّ مساوئ هذه الإدارة وعلى الرغم من كلّ ما قامت به خدمة للمصالح الإسرائيلية.

ليس سرّا أن الإدارة الأميركية الحالية وضعت خيار الدولتين على الرفّ. تغاضت كليا عن الاستيطان الزاحف على الضفّة الغربية ونقلت السفارة الأميركية إلى القدس بعد اعترافها بالمدينة المقدّسة عاصمة لدولة إسرائيل. يصبّ كلّ ما قامت به إدارة ترامب، التي أغلقت مكتب منظمة التحرير في واشنطن، في مصلحة اليمين الإسرائيلي الذي بات يتحكّم بالسلطة وبالقرار الإسرائيليين. يحكم اليمين إسرائيل على الرغم من حال الضياع السياسي التي فرضت حل الكنيست لنفسها والدعوة إلى انتخابات جديدة حدّد موعدها في أيلول-سبتمبر المقبل.

ما نراه اليوم على الأرض هو بمثابة بداية تنفيذ لـ”صفقة القرن” بكل ما يحيط بها من غموض. ليس كلام السفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، عن إمكان السماح لإسرائيل باحتلال أجزاء من الضفّة الغربية سوى دليل آخر على مدى التواطؤ بين إدارة ترامب واليمين الإسرائيلي، بقي بنيامين نتانياهو رئيسا للوزراء بعد الانتخابات المقبلة أم لم يبق.

الأكيد أن الفلسطينيين في وضع لا يحسدون عليه. لكنّ وضعهم السيء يجب ألّا يدفعهم إلى قرارات يائسة من نوع مقاطعة الإدارة الأميركية، أو مؤتمر البحرين بما يلبي المطالب الإسرائيلية… أو حركة مثل “حماس” لم يكن لديها من همّ في يوم من الأيّام سوى ضرب المشروع الوطني الفلسطيني وخدمة إسرائيل.

في السنة 2001، وصل أرييل شارون إلى السلطة نتيجة عسكرة الانتفاضة وفشل قمّة كامب ديفيد التي جمعت صيف السنة 2000 بين الرئيس كلينتون وياسر عرفات وإيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك. وضع شارون في أولوية الأولويات قطع طريق واشنطن على ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، الذي بقي يناضل منذ اليوم الأوّل لقيام حركة “فتح” من أجل دخول البيت الأبيض. منذ عسكرة الانتفاضة، توالت الأخطاء الفلسطينية وصولا إلى العزلة التي تعيشها السلطة الوطنية اليوم. لعلّ أوّل ما يعبّر عن هذه العزلة أنّ معظم الدول العربية، بما في ذلك دول الخليج، ستحضر مؤتمر البحرين.

يُفترض في السلطة الوطنية الاقتناع بأنّ الذهاب إلى المنامة لا يعني في الضرورة الاعتراف بـ”صفقة القرن”. يساعد الاستماع إلى ما يقال في المؤتمر والمشاركة في ورشة العمل الاقتصادية في فهم ما يدور في هذا العالم بدل البقاء على هامش الأحداث. هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح ليس بعده إلحاح. ماذا كان حدث لو لم يشارك الفلسطينيون في مؤتمر مدريد للسلام في خريف العام 1991. شارك الفلسطينيون وقتذاك في إطار وفد مشترك مع الأردن. مع الوقت، حقّق الفلسطينيون الذين دفعوا ثمن الوقوف مع صدّام حسين لدى احتلاله الكويت، الاختراق تلو الآخر، وصولا إلى توقيع اتفاق أوسلو. أدخل هذا الاتفاق “أبوعمّار” البيت الأبيض وسمح له بالعودة إلى أرض فلسطين.

قبل اتخاذ قرار بمقاطعة مؤتمر المنامة، من الضروري تذكّر مؤتمر مدريد حيث لم يكن هناك علم فلسطين. إضافة إلى العودة بالذاكرة إلى مؤتمر مدريد والظروف الإقليمية والدولية التي أحاطت به، يبدو أكثر من ضروري التفكير حاليا بما يدور في المنطقة. بصراحة، ليس بعدها صراحة، يرى معظم العرب حاليا أن التهديد الذي يتعرّضون له تهديد إيراني. من يعتدي على المملكة العربية السعودية هو إيران، ومن يسعى إلى جعل إيران تأخذ حجمها الحقيقي هو إدارة دونالد ترامب.

نعم، تراجعت قضيّة فلسطين عند العرب. لم تعد سوى موضوع مزايدة لدى الإيرانيين وأدواتهم العربية. تصبّ هذه المزايدة في حسابات لا هدف لها سوى إحراج العرب لا أكثر. هل يعي الفلسطينيون هذا الواقع، أم يريدون تجاوزه من منطلق أنّهم يعيشون في عالم خاص بهم؟

الأكيد أن القضية الفلسطينية لا يمكن أن تنتهي يوما إلّا بحل سياسي مرتبط ببرنامج اقتصادي. إنّها قضيّة شعب موجود على خريطة المنطقة لا يستطيع أحد إلغاء هويته الوطنية، مهما طال الزمن ومهما قويت إسرائيل ومهما كان الظلم الأميركي كبيرا. لكن الظروف الراهنة لها ضروراتها التي يفرضها الخطر الإيراني. هذه الظروف تفرض على الجانب الفلسطيني التحلي بالواقعية، بدل تطبيق النظرية القائلة إن الفلسطينيين لا يجيدون سوى إطلاق النار على أقدامهم بسبب جهلهم للتوازنات الإقليمية والدولية.