مشكلة الفلسطينيين لا تكمن فقط في الفجوة في موازين القوى بينهم وبين إسرائيل، وإنما تكمن أيضا في تخلف إدارتهم لصراعهم مع عدوهم، وتخلف إدارتهم لأحوالهم.
 

بعد 11 عاما من هيمنة حركة حماس على قطاع غزة، في شهر يونيو 2007، بواسطة القوة، وإدارته بطريقة أحادية وإقصائية، طيلة تلك الفترة، بات من الضروري وضع هذه التجربة في ميزان الفحص والمساءلة والنقد، سيما مع الأثمان الباهظة التي نجمت عن ذلك، سواء المتعلقة بخضوع مليوني فلسطيني للحصار، أو المتعلقة بالحروب الإسرائيلية المدمرة التي شُنّت على غزة، أو تلك التي تتعلق بالآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي اختبرها الفلسطينيون في ظل سلطة حركة “حماس”، ناهيك عن أثر ذلك على قضية فلسطين وحركتها الوطنية. وربما أن كل تلك الجوانب يمكن تلخيصها أو تبيّنها في ما يأتي:

1 شكّل الاستقطاب أو الانقسام السياسي، بين حركتي فتح وحماس، واقعا من افتقاد الفلسطينيين لمرجعية وطنية جامعة، على النحو الذي كان قبل ذلك. ومعلوم أن ذلك الانقسام لم يقتصر على الرؤى السياسية والإطارات التنظيمية وأشكال الكفاح ضد إسرائيل، وإنما هو وصل إلى حد الدخول في محاور عربية متضاربة، كما وصل حد التشكيك والاتهام والتكفير والتخوين المتبادل.

2 شكل ذلك الانقسام منصة لنشوء مخاوف حقيقية تسهل تكريس الفصل السياسي بين قطاع غزة والضفة الغربية، وهو ما بات واضحا مع التسريبات المتعلقة بما يسمى صفقة القرن، وهذا الانقسام السياسي، فوق الانقسام الجغرافي، سيفاقم من مشكلة الشعب الفلسطيني، المجزأ أصلا، بحسب أماكن وجوده، ويسهم في تفكيك مفهوم الفلسطينيين كشعب، علما أن ذلك هو واحد من أهم استهدافات تلك الصفقة، أي تفكيك قضية فلسطين، وتفكيك شعب فلسطين.

3 قدم انقسام السلطة، بما في ذلك تحول أكبر حركتين سياسيتين (حماس وفتح) نحو الاحتراب والتنازع، التبريرات اللازمة لإسرائيل لتغطية تملصها من مجمل عملية التسوية، ومن كل الاستحقاقات المرتبطة بها، أكثر مما سبق.

4 نجحت إسرائيل في تحويل انسحابها الأحادي من قطاع غزة، من إنجاز وطني للفلسطينيين إلى كارثة عليهم، فهؤلاء أخفقوا في الحفاظ على هذا الإنجاز، مثلما لم يستطيعوا المراكمة أو البناء عليه، لبناء نموذج يليق بتضحيات الشعب الفلسطيني ومعاناته.

هكذا تحول الخروج الإسرائيلي من قطاع غزة من إنجاز وطني إلى فخ، وإلى مكان لتنازع الفلسطينيين، واستنزاف طاقتهم فيه في الصراع الداخلي على السلطة، بدل مصارعة إسرائيل لإنهاء الاحتلال، بحيث أن مبرر حماس أخذها السلطة في غزة بدعوى المقاومة بات أمرا بعيد المنال، من الناحية العملية، سيما مع نزوع حماس نحو الهدنة، ونحو معادلة “هدوء مقابل هدوء”.

5 كشفت تجربة السلطة في قطاع غزة (كما في الضفة الغربية) أن الفلسطينيين لم ينجحوا في مهمات بناء الكيان السياسي، كما لم ينجحوا في مهمات بناء حركة وطنية، تعددية ومؤسسية وديمقراطية، سيما بعد أن تحولت مأثرة الانتخابات الفلسطينية الديمقراطية والنزيهة، بشهادة العالم، من مفخرة للفلسطينيين إلى وبال عليهم وكارثة على حركتهم الوطنية.

6 ليس فقط أن حركة حماس فقدت مبررها المتعلق بالمقاومة، في هيمنتها على غزة، بل إنها أيضا، فقدت المبرر المتعلق بإيجاد سلطة في غزة أفضل من تلك التي لحركة فتح في الضفة، إذ أن النموذج الذي قدمته في الإدارة وفي العلاقة مع مليوني فلسطيني، لم يكن أفضل، فحتى الحراكات الشعبية التي جرت في غزة تم قمعها، أو التعامل معها بطريقة فوقية أو عنيفة.

ولعل الجردة السابقة تبيّن أن مشكلة الفلسطينيين لا تكمن فقط في الفجوة في موازين القوى بينهم وبين إسرائيل، ولا في المعطيات العربية والدولية غير المواتية لهم، أو التي تشتغل ضدهم، ولصالح إسرائيل، وإنما هي تكمن أيضا في تخلف إدارتهم لصراعهم مع عدوهم، وتخلف إدارتهم لأحوالهم، كما في منازعاتهم وانقساماتهم البينية، ولاسيما في تحول حركتهم الوطنية من حركة تحرر إلى سلطة تحت الاحتلال، ما يفيد أن أزمة الفلسطينيين لا تتعلق بالانقسام الحاصل بين فتح وحماس، أو بين الضفة وغزة فقط، كما لا تتعلق بالسلطة في الضفة أو في غزة، فحسب، وإنما هي من نوع الأزمة الوطنية الشاملة، الناجمة عن إخفاق الخيارات السياسية والكفاحية، وتقادم واستهلاك الكيانات السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل)، والعجز عن توليد حركة وطنية فلسطينية جديدة، برؤى وطنية جديدة وجامعة.