يمكن أن تنسب العنصرية التي يستخدمها رئيس التيار العوني الوزير جبران باسيل في خطابه اليومي الى ثقافة ضحلة لا تستثني كثيرين من ساسة لبنان، والى سياسة عميقة إعتُمدت عن سابق تصور وتصميم، من قبل غالبية القوى السياسية. العونيون ليسوا العنوان الوحيد لتلك الظاهرة، لكنهم العنوان الاسوأ، لأنهم يحيلون الاجتماع اللبناني الى مراحل ماضية من الاشتباك الطائفي، كان يعتقد أنها طويت.

جدل العنصرية هو في الاصل مستورد من الخارج، من الغرب تحديداً. لم يكن في أي يوم من الايام متجذرا في الوعي اللبناني، الذي لا يحفظ عبر التاريخ سوى محاولات متلاحقة لتصفية الآخر، وتهجيره، وإنكار تميزاته وبالتالي حقوقه. الارتقاء بهذا الجدل، الذي كان وسيظل محصوراً في أوساط النخبة الثقافية، وليس السياسية، لم يكن له اي أثر لا في النفوس ولا في النصوص.. والادهى من ذلك، أن بعض المثقفين اللبنانيين عطلوا هذه المهمة، عندما إندمجوا قديماً في الفرز العنصري، على طريقة المثقفين الغربيين الذين أرسوا أسس الاستعمار الغربي، حسب الراحل إدوار سعيد.


لا يبدو الحساب مع باسيل جائزاً، لا في الثقافة ولا في السياسة، لا سيما وأنه ينتمي ويقود تياراً هو الاقل إعتماداً على إيديولوجيا واضحة ومحددة، من بين بقية الاحزاب والتيارات والتنظيمات اللبنانية. سلاحه الوحيد، الذي شهره منذ اليوم الاول لإنخراطه في اللعبة السياسية، بعد عودته من المنفى، هو سلاح العصبية الطائفية ، التي شاع إستخدامها من قبل جميع الخارجين من الحرب الاهلية، ورثة "القوى الايديولوجية" التي حطمتها تلك الحرب، وأطلقت أسوأ ما فيهم من عصبيات تاريخية متأصلة.


القول أن باسيل هو لسان حال الرئيس ميشال عون وخلاصة عقله وأسلوبه، لا يخدم في تقويم أو تصويب، بل ربما أدى الى العكس تماماً بالنظر الى تجربة الرجل وخدمته، التي لا تعرف الكثير من السياسة ولا تعترف بالقليل من الثقافة، بل تورث الحقد والكراهية لطبقة سياسية، ليس فيها ملائكة ولا قديسون، يمكن ان يتحدوا التيار العوني، أو يتّحدوا ضده على أقل تقدير. فالجميع يعرف أن التيار هو أقل فساداً من منافسيه، وهو يمارس اليوم لعبة البيع والشراء للحقوق والحصص التي سبق أن أتقنها خصومه جميعا.


أما الزعم أن باسيل هو المعبر عن وعي الموارنة خاصة والمسيحيين عموما، وعن مطالبهم الراهنة، فهو كلام لا يخلو من العنصرية المضادة أيضاً. المزاج الشعبي الماروني والمسيحي، يتفاعل مع الخطاب العوني أكثر من أي خطاب آخر، لأنه يستمد عناصره من الحاجة الدفينة للعودة بالبلد الى ما قبل الحرب الاهلية، لا الى الحرب نفسها، بل الى حقبة الامتيازات الشهيرة، التي كانت واحدة من حجج الحرب وصواعق تفجيرها.


وهو سلوك سياسي طبيعي جداً، في أعقاب سياسة العزل الاسلامية (والسورية) السابقة، التي أسفرت عن وراثة مشوهة لنظام "الامتيازات"، عاث فيها المسلمون فساداً في الدولة ومؤسساتها، وقدموا نموذجاً يشبه الى حد بعيد النموذج الفاضح الذي أرساه شيعة العراق منذ أن ورثوا الحكم من السنة. لكنه في الوقت نفسه، سلوك خطر، لأنه من جهة يفسح المجال لأسوأ نماذج ما كان يسمى ب"المارونية السياسية"، التي لا تقل تخلفاً وفساداً عن فضائح الاسلامية السياسية ، ولأنه من جهة أخرى، يعيد إنتاج نظرية التفوق "الجيني"، الذي يستهدف الآن النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين، لكنه يصيب في العمق المواطنين المسلمين المقيمين على الارض اللبنانية، ويحرك عصبياتهم القديمة.  


سياسة لاأخلاقية، نعم، بلا أدنى شك. لكن العونيين، متصالحون مع أنفسهم، مع قيادتهم، مع رئيسهم، وهذا وحده دليل على أن البلد منسجم مع نفسه ومع جميع مكوناتها وهوياته وعقائده. لا فضل لمواطن على آخر، إلا بدرجة إدعائه أن عنصريته مختلفة عن عنصرية الاخرين، سواء كان ذلك السلوك موجهاً الى الخارج، أو الى الداخل.