لم يأخذ الحرص الذي أبداه حزب الله على الرئيس سعد الحريري، حقّه في النقاش السياسي. تحت ظلال التوتر السياسي بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحرّ، كان الحزب يلعب دور الإطفائي. لم ينحصر هذا الدور في الكواليس والقنوات السرية فقط، من خلال التواصل المباشر بين الحزب ورئيس الحكومة، إنما انعكس في مناخات المحسوبين على الحزب، الذين أشادوا بموقف الحريري الحريص على التسوية، وركزوا الهجوم على المعترضين الآخرين.

برموش العين

لحرص الحزب على رئيس الحكومة أبعاد داخلية، ومرتبطة أيضاً بالتطورات الإقليمية والدولية. فليس من المعتاد أن يدافع حزب الله عن رئيس تيار المستقبل. وليس اعتيادياً في هذا الظرف (السعودي - الإيراني) تحديداً، وإن استمر هجوم المقربين من الحزب على القيادات السنية المحتدة والغاضبة. والمفارق كان بالتقاء دفاع حزب الله عن رئيس الحكومة وانتقادهما سوية لـ"المزايدين"، على الرغم من مضمون كلام الحريري في مؤتمره الصحافي الأخير، الذي لم يبتعد كثيراً عن مضمون كلام "الجناح المتشدد" عند السنّية السياسية.

يحسب حزب الله لكل خطوة أكثر من حساب. يحمل سلتين، واحدة لحصاده وقطافه، وأخرى لأسلحته وقوته. الحزب مصرّ على حماية التسوية بـ"رموش العيون"، والحفاظ على موقع الرئيس سعد الحريري، لجملة أسباب، تبدأ بإبقاء الوضع اللبناني هادئاً ومستقراً، خصوصاً أن الحزب لا يواجه ما يزعجه في البلد، وكل مصالحه مؤمنة. وفي المقابل أيضاً، هو لن يسمح لبعض المزايدين على الحريري بأن يجدوا طريقهم إلى المسرح السياسي العام، في ظل هذه الظروف. هذه حسبة دقيقة يعمل الحزب على حياكة شبكة خيوطها، عبر إبقاء الحريري قريباً منه، يحظى بالأمان والاطمئنان، بما يحقق للحزب "الشرعية السنّية"، التي لن يكون أحد قادراً على توفيرها سوى الحريري نفسه.

فائدة متبادلة 

وفق هذه المعادلة، يبقى حزب الله ممسكاً العصا من طرفيها، هو الطرف الشيعي القوي، مع الطرفين السني والمسيحي القويين، وهو يعلم أن هذين الطرفين بأمس الحاجة إليه دوماً، لعدم الإخلال بأي "ستاتيكو" أو خسارة أي مكتسبات، طالما الأوضاع الإقليمية مستمرة على حالها. وبما أن الظروف باقية على هذا المنوال، فإن الحزب يبقى مرتاحاً على وضعه سياسياً واستراتيجياً، بمعزل عن بعض الخلافات التي لا تبدو أنها ذات قيمة عملية. فحتى الموقف الذي أطلقه الأمين العام، السيد حسن نصر الله، منتقداً فيه موقف الحريري في قمم مكة، يفيد الحريري ويصب في صالحه، على الصعيد الشعبي وعلى صعيد علاقات الحريري العربية والخليجية. بينما الحزب يعلم أن لا شيء سيتغير فعلياً، مهما يكون عليه الموقف اللبناني في هذه القمم. وبالنسبة إلى الخلاف بين الحريري والتيار الوطني الحرّ، والذي من شأنه "شد عصب الجمهور" لدى الطرفين، فهما يستفيدان شعبياً من هذه الحملات، على نحو يظهر فيه باسيل "قائداً" للمسيحيين، ويبدو فيه أيضاً الحريري مستنهضاً مؤيديه وبيئته بمجرد رد في مؤتمر صحافي. وهو الردّ الذي وصفه التيار الوطني الحرّ بأنه "فشة خلق".

إدارة التفاوض

إدارة الأمور بهذه العناية، يتقنها حزب الله. كما يدير تماماً بعض الملفات ذات البعد الاستراتيجي، والتي يوكلها إلى الحلفاء، على غرار ملف ترسيم الحدود. هذا الملف بدأ التعامل معه بإيجابية فائقة. وقد رحب نصر الله بالرسالة اللبنانية الموجهة للجانب الأميركي، فتحركت المساعي على إيقاع متفائل، إلا أن الحزب لم يسقط من حساباته أي احتمال لحصول تطورات سلبية، فرحّب من جهة، واحتفظ بعوامل المجابهة من جهة أخرى، وفق قاعدة عدم التنازل عن الحقوق والتمسك بها كاملة، وتلازم التوقيع على الترسيم براً وبحراً، بالإضافة إلى التأكيد على الحق بالمقاومة لتحرير الأراضي المحتلة.

يوم رحّب حزب الله، وذكر أمينه العام باستمرار عمل المقاومة لتحرير الأراضي المحتلة، كان يأخذ في حسبانه كل الاحتمالات، لأن ملف الترسيم يرتبط بملفات المنطقة كلها، والتي إذا ما سارت بإيجابية فإن المفاوضات ستسير بإيجابية، أما بحال تعرقلت هناك، فلا بد لهذه المفاوضات هنا أن تتعرقل، أولاً لجهة التلازم البري والبحري، وثانياً لعدم الخروج عن "مبدأ وحدة المسار والمصير"، أي عدم فصل المفاوضات اللبنانية عن المفاوضات السورية، وعدم الترسيم مع العدو قبل الترسيم مع الشقيق!

الإيقاع الإيراني 

شروط التفاوض وحدوده، تأتي ضمن "الخطة ب" لدى الحزب. وستكون حاضرة في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن الإطار العام مع ساترفيلد قد وُضع وأصبح واضحاً. فإذا ما سارت الأمور الإقليمية بإيجابية، يمكن المراكمة إيجابياً في الملف اللبناني، أما في حال التصعيد فإن المساعي في لبنان ستبقى معلّقة. حزب الله لن يكون مستعجلاً في حلحلة عقد هذه الملفات، سيلازم "الصبر" الإيراني وإيقاعه، إلى أن تنجلي الصورة. وهو لا يجد نفسه مضطراً للاستعجال ولا إلى التنازل، طالما أنه يمسك بالقرار، سياسياً عبر القوى الرئيسية، واستراتيجياً عبر قوته وموازين القوى التي تميل لصالحه.

ولذا، بداية كان التفاؤل طاغياً مع مبادرة ساترفيلد، إلى أن برزت أجواء بددته بعد زيارته الأخيرة.