في كل الظروف فإن الفلسطينيين، شعب ضعيف وممزق، بغض النظر عن العواطف والشعارات، وهو الأحوج لصوغ رؤى وطنية.
 

عندما انطلقت الحركة الوطنية الفلسطينية في منتصف الستينات، كان هدفها الجامع الذي أشهرته، آنذاك، يتركّز على تحرير فلسطين، وليس الضفة وغزة اللتين لم تكونا محتلتين بعد، وقد تضمن هدف التحرير في حينه، عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم وتقويض الكيان الصهيوني.

بيد أن حرب يونيو 1967، التي نجم عنها استيلاء إسرائيل على ما تبقى من فلسطين (الضفة وغزة)، واحتلالها شبه جزيرة سيناء من مصر وهضبة الجولان السورية، بيّنت إخفاق الأنظمة العربية القومية الراديكالية، وكشفت الفجوة في موازين القوى بين إسرائيل والأنظمة العربية، وتمتّع إسرائيل بدعم وحماية الدول الكبرى.

وفي المحصّلة فقد استطاعت إسرائيل عبر تلك الحرب والتداعيات الناجمة عنها، نقل أجندة الأنظمة العربية من حيز التحرير إلى حيز استعادة الأراضي المحتلة عام 1967، ومن إزالة إسرائيل إلى فكرة “إزالة آثار العدوان”، ومن ملف النكبة الحاصلة في 1948 والتداعيات الناجمة عنها، إلى ما بات يعرف بالنكسة الحاصلة في 1967 والتداعيات التي أفضت إليها.

هكذا فإن التحول المذكور أثّر على الحركة الوطنية الفلسطينية الوليدة، في حينه، بحكم عدة أسباب. أولها أن تلك الحركة لم تنطلق من أرضها وإنما من الأراضي العربية المجاورة (الأردن ولبنان وسوريا)، أي أنها كانت محكومة بالبعد العربي، مع ضعف وتمزق البيئة الفلسطينية، التي يفترض أنها حاضنة لها.

ثانيها أن تلك الحركة لم تعتمد على شعبها، إذ اعتمدت في مواردها المالية والتسليحية على الدعم المتأتي من الأنظمة العربية، ما جعلها مرتهنة لها. وثالثها أن تلك الحركة أضحت بمثابة نظام من الأنظمة بعد أن دخلت في إطار منظمة التحرير، التي شكلت بقرار من النظام السياسي العربي (أواخر 1967)، لاسيما بسعيها إلى الاستحواذ على شرعية عربية ودولية لفرض ذاتها، أو لفرض البعد الفلسطيني في الأجندة العربية والدولية.

في هذا الإطار، وللإنصاف، قد يفترض التذكير هنا بأن انتقال الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى حركة استقلال، لم يتم بسهولة أو بطريقة تلقائية أو مرة واحدة، إذ أنها طرحت قبل ذلك، في أواخر الستينات، فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين الكاملة، علما وأن تلك الدعوة تضمنت عدم الاعتراف بشرعية إسرائيل، والدعوة إلى تقويضها. وقد حصل هذا التطور على خلفية الانفتاح على الأفكار اليسارية التي كانت سائدة، وحاجة الفلسطينيين لتعزيز تعاطف الرأي العام الدولي مع قضيتهم، عبر إدخال تغييرات على الفكر السياسي الفلسطيني، في ما يتعلق بالموقف من اليهود، لاسيما الإسرائيليين، والتمييز بينهم وبين الصهيونية.

هكذا، أقرت الدورة السادسة للمجلس الوطني (في القاهرة 1969) أن “هدف الكفاح الفلسطيني إعادة الشعب الفلسطيني إلى وطنه، وإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني، بعيدة عن كل أنواع التمييز العنصري والتعصّب الديني”. ونصّت الدورة الثامنة (القاهرة 1971)، على “أن الكفاح الفلسطيني المسلح ليس كفاحا عرقيا أو مذهبيا ضد اليهود. ولهذا فإن دولة المستقبل في فلسطين المحررة من الاستعمار الصهيوني هي الدولة الفلسطينية الديمقراطية التي يتمتع الراغبون في العيش بسلام فيها بنفس الحقوق والواجبات”.

بالمحصلة فإن الفلسطينيين على ضوء مسيرة كفاحية زادت عن نصف قرن، مع إخفاق الخيارات الوطنية، والخلل الكبير في موازين القوى والمعطيات العربية والدولية، باتوا يبحثون عن رؤى وطنية جامعة بديلة وأكثر جدوى، تعزز صمودهم في أرضهم وتنمّي قدراتهم، لمواجهة مشكلتين أساسيتين. أولاهما تملص إسرائيل من استحقاقات اتفاق أوسلو، كما بدا من وقائع مؤتمر كامب ديفيد 2 (2000)، وواقع استشراء الاستيطان وتهويد القدس وبناء الجدار الفاصل، وإنشاء الطرق الالتفافية وحصار غزة وجمود العملية التفاوضية وانسداد أفق الدولة المستقلة.

 والمشكلة الثانية تخص حقيقة أن حل الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، على أهميته، لا يجيب عن مجمل أسئلة الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، لا التساؤل المتعلق بحل قضية اللاجئين الفلسطينيين في مناطق الشتات، والذين يشكلون نصف الشعب الفلسطيني، ويمثلون جوهر القضية الفلسطينية، ولا التساؤل المتعلق بهذا الجزء من شعب فلسطين المتشبث بأرضه منذ عام 1948، ناهيك عن التساؤل المتعلق بطبيعة إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية في المنطقة.

على ضوء ذلك ظهرت وجهات نظر قديمة – جديدة، منها ما يطالب بالعودة إلى فكرة الدولة الواحدة، ليس اقتناعا بتلك الفكرة، وإنما باعتبار ذلك يتضمن تهديدا لإسرائيل، بأنها ستتحول إلى دولة ثنائية القومية في نظام تمييز عنصري ضد الفلسطينيين، لحثها على العودة إلى خيار الدولة المستقلة بالضفة والقطاع، وهي وجهة نظر تحاول أوساط السلطة الفلسطينية طرحها.

ثمة وجهة نظر أخرى، ترى أن الحل يكمن في التمسك بفكرة الدولة المستقلة في الضفة والقطاع باعتبارها تتماثل مع مقررات الشرعية الدولية، والخيار الأكثر واقعية. في مقابل هاتين النظرتين، ثمة وجهة نظر ثالثة، تبرز في أوساط مثقفين وأكاديميين تؤكد على ضرورة إضفاء معاني جديدة على فكرة التحرير، إذ أن الصراع ضد إسرائيل لا يمكن اختزاله في تحرير الأرض أو جزء منها، على أهمية ذلك، وإنما يفترض أن يشمل الحقوق أيضا، كونها اللغة التي يفهمها العالم اليوم، وأن هذا الحل يجب أن يتأسس على الحقيقة والعدالة ولو النسبيتين، وعلى قيم الحرية والكرامة والمواطنة المتساوية والديمقراطية، بغض النظر عن الشكل الدولتي لذلك، كونفيدرالية أو فيدرالية، دولة واحدة أو ثنائية القومية أو دولتين في وطن، كون الأساس في هذا الأمر الحقوق الوطنية والفردية.

لا يوجد حل عادل للفلسطينيين، بالمعنى المطلق، ولا يمكن إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف، كما لا يمكن شطب جماعة بشرية، لا من ناحية أخلاقية ولا من ناحية عملية، وفي كل الظروف فإن الفلسطينيين، شعب ضعيف وممزق، بغض النظر عن العواطف والشعارات، وهو الأحوج لصوغ رؤى وطنية، جامعة، تستعيد التطابق بين الأرض والشعب والقضية، وتركز على الحقوق والإنسان وتنمية المجتمع إضافة إلى تركيزها على مصارعة الطابع الاستعماري الاستيطاني العنصري لإسرائيل، رؤى وطنية تراعي التوازن بين الواقع والطموحات، وبين الإمكانيات والشعارات.