وسط التوترات المتنقلة، التي تعيشها المنطقة على وقع التصعيد الأميركي الإيراني، واستعراض مظاهر القوة، قبل فتح باب المفاوضات، يبقى لبنان محيّداً (نسبياً) عن مختلف أحداث في المنطقة. ويبقى لبنان البلد الوحيد الذي لم يقع فيه أي تطور عسكري، على شاكلة استهداف السفارة الأميركية في العراق، أو ضرب صواريخ باتجاه الجولان، أو استهداف ناقلات النفط في الفجيرة وخليج عمان، أو ضرب مطار أبها وخطوط أرامكو. على العكس، مثّل لبنان ساحة تواصل إيجابي بين واشنطن وطهران، من مساعي ساترفيلد والموافقة اللبنانية على بدء مفاوضات الترسيم، إلى إطلاق سراح نزار زكا، بالإضافة إلى حرص حزب الله على بقاء التسوية السياسية.

الجنود الأميركيون وحزب الله
هذا يعني أن ثمة قراراً جامعاً ومشتركاً في الحفاظ على الاستقرار اللبناني، في ظل تقاطع المصالح بين الجميع، ليتحول لبنان إلى "ساحة" لتبادل الرسائل الإيجابية، بخلاف الساحات الأخرى التي تسودها رسائل مشتعلة بالنار. التطور الجديد الذي شهده لبنان هو العملية الإرهابية التي استهدفت طرابلس، والتي تشير إلى أن ثمة إرهاباً لا بد من التعاون للاستمرار في مواجهته. وهذا التعاون يعني حكماً أنه سيكون على نحو مباشر أو غير مباشر بين حزب الله والأميركيين، كما حدث في معارك جرود عرسال، حين تم التنسيق المباشر بين الجيش اللبناني والقوات الأميركية، ومع حزب الله من جهة أخرى، وأيضاً كما حال المعارك التي خاضها الحشد الشعبي وقاسم سليماني في العراق على الأرض، فيما كانت الطائرات الأميركية تتولى المهمة من الجو.

ليست صدفة، بعد العملية الإرهابية في طرابلس، أن تكون الحكومة اللبنانية قد أرسلت طلباً للقوات الأميركية بزيادة عديدها في لبنان، وفق ما جاء في الإخطار الذي أرسله الرئيس الاميركي دونالد ترامب إلى الكونغرس حول زيادة عدد الجنود الأميركيين في دول المنطقة، ومن بينها لبنان، الذي من المفترض أن يُرسل إليه 60 جندياً أميركياً. واللافت أنه في هذا الإخطار، أشار ترامب إلى أن الحكومة اللبنانية هي التي طلبت ذلك، بغية مساعدتها في عمليات مكافحة الإرهاب. والجهة الرسمية اللبنانية التي أرسلت هذا الطلب هي وزارة الدفاع اللبنانية. ما يعني رسالة إيجابية من لبنان لواشنطن، لا يمكن تسطيرها إلا بموافقة حزب الله، تماماً كما كان الحال مع الرسالة الرسمية الإيجابية للسفيرة الأميركية اليزابيت ريتشارد، من أجل بدء مفاوضات ترسيم الحدود.

القواعد الأميركية
هذا الكلام يوجب الإضاءة مجدداً على القوات العسكرية الأميركية الموجودة في لبنان، والتي سيرتفع عديدها إلى أكثر من 200 جندي موزعين على قواعد متعددة. فهناك فرقة عسكرية في مطار حامات العسكري، وهي مسؤولة عن حركة المطار، وهي منطقة تعاون وتنسيق مشترك وكامل مع الجيش اللبناني. يمكن وصف مطار حامات بالقاعدة العسكرية الأميركية، وقاعدة للطائرات الحربية (سيسنا) التي كانت تنطلق لضرب أهداف لتنظيم داعش في جرود السلسلة الشرقية، وهذه الطائرات كانت تتلقّى إحداثياتها من غرفة العمليات الأميركية.

أيضاً هناك وجود الأميركي في قاعدة عمشيت البحرية، والتي تضم حوالى 75 جندياً أميركياً، لتدريب أفواج المغاوير. أما مطار رياق، فقد تحول إلى ما يشبه القاعدة العسكرية الأميركية، إذ إن بعض الطائرات الأميركية التي تنطلق نحو سوريا تقلع منه. وتلفت المصادر إلى وجود خبراء عسكريين أميركيين في ذلك المطار، وقد أجروا العديد من التدريبات للجيش اللبناني.. بالإضافة إلى وجود مركز الاتصال والتنسيق بين الجيشين الأميركي واللبناني في وزارة الدفاع، والذي يتفعّل عمله في الفترة الأخيرة بشكل لافت.

السفارة الاستراتيجية
إرسال ستين عسكرياً أميركياً جديداً إلى لبنان للمساعدة في مكافحة الإرهاب، مؤشر ملفت، خصوصاً أن هؤلاء الجنود متخصصون بالمعارك التقنية والتكنولوجية ضد الجماعات الإرهابية، وليس بالضرورة أن تكون مهامهم عسكرية ميدانية. وهنا أيضاً لا بد من الإشارة إلى واقعة هبوط طائرة أميركية آتية مباشرة من تل أبيب في مطار حامات، من ثم حطت في مطار رفيق الحريري الدولي.

لا شك أن لبنان يمثّل أهمية استراتيجية بالنسبة إلى الأميركيين، وهم يولون مؤسستين أهمية خاصة لا يمكن الاقتراب منهما في لبنان: الجيش اللبناني والمصرف المركزي. هذا، إلى جانب اهتمامهم بملفات أخرى ستطرح في المرحلة المقبلة، بعد بدء مفاوضات ترسيم الحدود، وهي ضبط المعابر غير الشرعية على الحدود الشرقية والشمالية، والتي تضطلع بها حالياً قوات بريطانية وألمانية تقوم بعمليات مراقبة حثيثة لها، بالإضافة إلى الأولوية الأميركية بضمان أمن إسرائيل، وضمان القدرة على مراقبة الداخل السوري، ومشاطرة الروس السيطرة على سواحل المتوسط، إضافة إلى "التماس" مع مشروع "طريق الحرير" الصيني.

الاهتمام الأميركي المباشر بلبنان، لا يمكن فصله عن مشروع تشييد السفارة الجديدة، التي يتم العمل على بنائها على شاطئ عوكر، وهي من أكبر وأضخم وأهم المشاريع الأميركية في منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة، وتكشف مخططات المشروع الضخم أنه سيبنى على مساحة 174 ألف متر مربع، ويحتوي على مباني عدة قيل إنها ستكون على مستوى أمني عالي لحماية الموظفين والرعايا الأميركيين في حالات الطوارئ القصوى. وستحوي مطاراً عسكرياً وقاعدة استخبارية كبرى، ما يؤكد الأهداف الاستراتيجية للأميركيين في لبنان، من النفط إلى محاربة الإرهاب مروراً بالعمق السوري، وصولاً إلى أمن إسرائيل وشرق المتوسط.