سُئل أحد أبناء القبائل العراقية، كيف حالكم، فقال، نحن بخير، لا ينقصنا غير الخام والطعام. وحال الشعب الإيراني، اليوم، لا يختلف عن حال تلك القبيلة، فهو بخير، كما يقول المرشد الأعلى ومساعدوه الكبار.

فهم لا يكفّون، دائما وأبدا، عن التبجّح والمفاخرة بصمود الشعب الإيراني واستعداده لتحمل جميع الآلام والأحزان والأضرار التي تنتج عن العقوبات الأميركية التي توشك أن تصبح عالمية بعد اضطرار الدول الكبرى، قبل الصغرى، للامتثال لأحكامها، خوفا على مصالحها الضخمة في الأسواق الأميركية التي لا تُعوّض.

وحين يغضب الله على أحد، شخصا كان أو حزبا أو حكومة، يُخرجه من طور الآدمية الاعتيادية المحبّة للعيش بسلام مع من حوله، ويزرع في قلبه وعقله الشر وحبَّ الغزو والظلم والاعتداء على الآخرين، ثم يصيبه بلوثة جنون العظمة، ويُدخل فيه الغطرسة وغرور القوة لتحلّ عليه اللعنة، مهما طال به الانتظار.

ويبدو أن الطواويس الإيرانية التي لا تتوقف عن نفش ريشها على البلاد والعباد قد أصابتها اللوثة القاتلة التي سقط بها جبابرة، وانتهت بها ممالك، واختفت أمم، عبر التاريخ الطويل.

فإلى ما قبل سقوط هيلاري كلينتون بأيام وفوز التاجر المتمرس في فنون الصفقات والمغامرات والمعاكسات والمشاكسات الذي وجد كنزه السياسي في “عدائه” العلني والسري لإرهاب النظام الإيراني، فجَعَله ورقتَه الانتخابية الرابحة، كان المرشد الأعلى علي خامنئي يخطب دائما مفاخرا بأن دولته صنعت الصواريخ وطيّرت الأقمار الصناعية وجعلت العالم يرتعش خوفا من جبروتها وقوة جيوشها وكثرة أذرعها الخارجية المسلحة التي هزت عروشا، ودوّخت شعوبا، وستكون أسلحته الضاربة التي يخبّئها ليوم معلوم.

ومن يتابع تصريحات كبارهم وصغارهم، وهم يفاخرون بأن العراق ولبنان وسوريا واليمن وأفغانستان أصبحت ممتلكات مضافة إلى دولتهم الفارسية العظمى، يدرك هذه الحقيقة دون ريب.

فبطلُ أبطالهم قاسم سليماني، مثلا، قد تباهى، ذات يوم، بأن دولة مرشده الأعلى أصبحت عظمى تُهاب قوتها وسطوتُها، مُستدلاّ بتسارع الدول الكبرى والصغرى إلى مُصادقتها والتعامل معها، فقال إن “تاريخ إيران لم يشهد في جميع مراحله مثل تأثيرها الحاصل الآن في العالم”، وتساءل “إذا كنا في عزلة فلماذا تُصرّ جميع الدول على إقامة علاقات مع إيران؟”.

والحقيقة أن قليلين من الإيرانيين ووكلائهم العراقيين واللبنانيين والسوريين والفلسطينيين واليمنيين، يعترفون بمهارة الأميركيين في لعبة الكلمات المتقاطعة حين يريدون أن يحرقوا أعصاب خصومهم على نار هادئة، ودون ضجيج.

فأميركا، مثلا، لم تهدد النظام الإيراني بالجعجعة الفارغة والكلام الفاضي، بل بما قل ودل، حتى جعلته يعرف حده ويقف عنده ولا يكرر حماقاته الصغيرة الصبيانية التي توهَّم بأنها كافية لإخافة الرئيس الأميركي وجعله يحمل عصاه ويرحل.

فبعبارة قصيرة مؤلفة من بضع كلمات “إذا أرادت إيران أن تحارب فستكون هذه نهايتها”، أجبر ترامب نظامَ خصومه الإيرانيين على الاستيقاظ من سباتٍ طويل، ثم واصل هوايته في حرق أعصابهم تقسيطا وعلى مراحل.

ولم تتراجع بوارجه ولم تغادر المنطقة، بل تزايدت، عدّة وعددا، في مياه الخليج العربي والبحار المحيطة بالمنطقة. وعقوباته شغّالة دون توقف أو هوادة، بل تضاف إليها، من وقت إلى آخر، موجةً بعد موجة، عقوباتٌ جديدة لإحكام الحبل الخانق حول رقبة المرشد الإيراني علي خامنئي إلى أن يحين يوم الحساب والكتاب.

ومن لا يوافقنا على اعتبار النظام الإيراني في علبة صفيح مقفلة، وذاهب إلى الجحيم فليسأل قاسم سليماني الذي فاخر ذات يوم بتهافت الدول على كسب مودة وليّه الفقيه، هذا السؤال؛ كيف يكون الحصار إذن حين لا يبقى حول دولته “العظمى”، اليوم، غير هادي العامري ونوري المالكي وقيس الخزعلي وحسن نصرالله والحوثي، وهم مضطرون ومجبرون باعتبار أن مصيرهم من مصير الاحتلال الإيراني للعراق واليمن ولبنان، ثم مقتدى وعادل عبد المهدي وكاكه برهم والحلبوسي وأبو مازن الجبوري عمالةً أو خوفا من خناجرها الغادرة التي تطعن من الخلف، وتحت جنح الظلام؟

أما آخر أخبار وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، فهو أنه وجّه تهديداً مبطناً إلى الولايات المتحدة بأنها لن تكون “في أمان”؟، وبأن “مَن يشنّ حرباً علينا، لن يكون هو مَن ينهيها”؟، رغم أنه منشغل، بحماسٍ غير قليل، باستقبال الوسطاء اليابانيين والألمان والعمانيين والعراقيين، وبموافقة وليّه الفقيه، طبعا ودون ريب.

خبر آخر. نقلت وكالة أنباء رويترز عن التلفزيون الرسمي الإيراني أن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، عباس موسوي، قال “حتى الآن لم نشهد تحركات عملية وملموسة من الأوروبيين لضمان مصالح إيران، إننا لن نبحث أي قضية خارج نطاق الاتفاق النووي”.

وأميركا تعلم، وإيران تعلم، والدنيا كلها تعلم بأن تنازل ترامب عن أيٍ من شروط وزير خارجيته أمر أشبه بالمستحيل قد يكلفه الرئاسة، وأن مجرد دخول النظام الإيراني إلى خيمة “المفاوضات”، التي لن تختلف كثيرا عن خيمة صفوان العراقية عام 1991، هو بداية مؤكدة لمسلسل تنازلات متلاحقة لن تتوقف ولن تنتهي، وإلى آخر نفَس.