أراد الرئيس سعد الحريري أن يعيد الأمور إلى: "وكأن شيئاً لم يكن". لم يستطع التغاضي أكثر عن الحملات السياسية التي تعرّض لها مع تياره، فقرّر أن يضع النقاط فوق الحروف، ولكن ليس على قاعدة فتح مواجهة، بل للخروج من هذه الدوامة، والعودة إلى المسار "الطبيعي"، مناقشة الموازنة والعمل في الملفات الأخرى من التعيينات إلى غيرها. يؤكد هذا الكلام، أن الرجل لا يريد التورط في سجالات سياسية. كان يريد الاستراحة في العيد، بعد جلسات الموازنة، والعودة إلى لعمل بعد انقضاء العطلة. هذا هو السقف السياسي الذي يريده في هذه المرحلة.

الاستمرار بالتسوية
من الواضح أن المسار السيء للسجالات فرض نفسه على الحريري، ما اضطره إلى ترتيب مؤتمر صحافي لإطلاق موقف علني شامل، مخاطباً أبناء بيئته (طائفته) وجمهوره وتياره، كما سائر اللبنانيين مؤكداً الاستمرار بالتسوية المعقودة منذ لحظة اختيار ميشال عون رئيساً.. لكن مع تحسين للشروط ولو ظاهرياً بالحدّ الأدنى. وهو أيضاً لم يترك ملفاً عالقاً إلا وتناوله. وهذا يُسجَّل له سياسياً، على أن تبقى العبرة في تنفيذ ما وضع من شروط.

بالمقارنة بين موقفه في مؤتمره الصحافي هذا، وآخر مؤتمر صحافي عقده في بيت الوسط، أيام كان رئيساً مكلفاً بتشكيل الحكومة، يتضح الفارق الكبير في الخطاب السياسي. في ذلك المؤتمر رفع الحريري السقف أكثر من ذلك، ويومها لمّح بالاعتذار عن التأليف، لما تعرّض له من ضغوط وشروط. لكنّه بعدها اضطر إلى التنازل والمضي في تشكيل الحكومة مع تحسين شكلي لبعض شروطه. في مؤتمر الثلاثاء 11 حزيران، لم تكن نبرة الحريري حادة. سجل فيه بعض الاعتراضات أو الملاحظات، كما لو أنه مراقب وليس صاحب قرار أو مالك صلاحية. وتلك إشارة أساسية إلى أنه مستمر في التسوية، ولا بديل عنها كما قال حرفياً: "البديل عن التسوية سيكون المجهول".

في المؤتمر الصحافي الأول، كان الحريري واضحاً تجاه نية البعض المساس بصلاحيات رئيس الحكومة، وأعلن رفضه القاطع لها، أما بالأمس فاعتبر أن لا أحد استطاع استهداف الصلاحيات، وكل ما يحكى هو عبارة عن كذبة كبرى، انخرط بعض المزايدين فيها. ولذلك، أراد الحريري الحفاظ على التسوية، راغباً أكثر بالتمسك بها، لمواجهة أو قطع الطريق على أي رافض لها أو أي مزايد عليه. فوجه كلامه بشكل مباشر إلى رئيس الجمهورية، واصفاً إياه بالضمانة، وإلى الوزير جبران باسيل بأنه الحريص على استمرار العلاقة معه، على الرغم من الحساسيات التي تحتاج إلى حلول.

وهذا الكلام، يؤكد في مضمونه، إنجاز اتصالات بعيدة من الأضواء لتأكيد التفاهم والتسوية، خصوصاً أن رئيس الجمهورية تقصّد إيفاد ممثل له إلى دار الفتوى، للتأكيد على الاستمرار بالتسوية وبالشراكة و"الحرص على السنّة"، بينما باسيل كان غائباً عن الرد على الهجمات التي تعرض لها في آخر 48 ساعة. ما يعني أن عون قد تدخل مباشرة على خط تهدئة النفوس.

ثلاثة هموم
الهمّ الأول في خطاب الحريري، كان امتصاص غضب جمهوره، فأقر بوجود حالة غضب ناجمة عن ممارسات بعض الشركاء، وهو قصد باسيل والتيار الوطني الحرّ. وهذا تطور في موقفه. إذ كان سابقاً يرفض الحديث عن وجود غضب أو احباط سنّي. والهمّ الثاني كان قطع الطريق على المزايدين عليه داخل بيئته (وداخل بيته؟)، معلناً أنه لا يحب المزايدات ولا المناكفات، مشيراً إلى أن من حق أي طرف أن يطمح للوصول إلى رئاسة الحكومة (إشارة لنهاد المشنوق؟). أما الهمّ الثالث فهو تجديد التسوية وفق صون شروط وحفظ الكرامات.

لذلك تقصّد الحريري أن يطلق موقفه قبل زيارته لرئيس الجمهورية، بهدف تحسين مكانته ما قبل اللقاء، وهذا ما تبدى عبر كلامه المصوَّب نحو الوزير جبران باسيل، إذ توجه إليه بالقول إن الأمور لا يمكن أن تدار بهذه الطريقة. وقد مرر الحريري موقفين أساسيين يتعلقان بصيانة التسوية. أولاً، فيما يتعلق بقضية الموازنة، والتي لا يمكن القبول بآلية التعامل بشأن إقرارها على النحو السائر، وإضاعة الوقت، منتقداً أداء بعض الكتل والنواب الممثلة بمجلس الوزراء. وثانياً، بالحديث عن ملفات أخرى ستكون حاضرة كالتعيينات وغيرها.

المحكمة العسكرية وجرمانوس
الحريري أيضاً، وضع سقفاً محدداً للاستمرار بهذه التسوية، خصوصاً فيما يتعلق بقضية المحكمة العسكرية. وهنا تشير بعض المعلومات إلى أن الحريري لن يسكت عما حصل في المحكمة العسكرية، وهو سيصرّ على دفع ثمن هذه القضية، بما قد يكون إقالة بيتر جرمانوس من موقعه، أو نقله إلى مهمة أخرى، خصوصاً أنه قال: "لو حصل هذا الأمر في بلد آخر لكان مثّل فضيحة كبرى، ولا يمكن السكوت عنها". وكان واضحاً حين أشار إلى تدخل التيار الوطني الحرّ بعمل المحكمة العسكرية وتحول المدعي العام إلى محام للدفاع. ولكن هناك من يعتبر أن الحريري لن يكون قادراً على حسم هذه المعركة ضد جرمانوس، لأن باسيل مستعد للتنازل ظاهرياً فقط، كما اكتفى بنفي الكلام الذي نسب إليه في البقاع وأدى إلى هذا التوتر.. ولن ينكسر في معركة جرمانوس، بل سيطرح إقالة اللواء عماد عثمان مقابلها، ما يعني إبقاء القديم على قدمه إلى حين.

أدى الحريري الحدّ الأدنى إعلامياً، ليبقى الأمر معلّقاً على الفعل. وهو أصر على الردّ على باسيل معتبراً أن الأمور لا تدار بزلات اللسان، كما تبنى كلام رؤساء الحكومات السابقين. وهذا مؤشر على الشروط التي يضعها. ولذا، أصر الحريري على استعادة بعض قدراته وشروطه ضمن مبدأ التسوية، وهو مدرك أنها على المدى الأبعد، تندرج في خانة المقتضيات الإقليمية والدولية الحالية، طالما أن الستاتيكو الإقليمي باق على انضباطه، والذي يبقي التسوية قائمة على الرغم من أنها تصب في صالح حزب الله.