ليس مستغربا أن نسمع كلاما متهورا حتى الغباء في السياسة والديبلوماسية وأدبيات المخاطبة، كالذي نسمعه هذه الأيام في لبنان. فعدد ممن يتولّون مواقع مسؤولية شديدة الحساسية يفتقرون الى حد أدنى من الإدراك والثقافة التاريخية والسياسية والقيمية، وينقصهم فهم أصول الحكم الرشيد في بلد تعددي مثل لبنان، يقوم على لعبة التوازن الدقيق بين مكوناته. ومن الطبيعي القول إن آفة الآفات في لبنان ليست في الفساد المادي فحسب، وإنما في الفهم الضحل لأصول الحكم، وفي فساد الرؤية واللسان.

لقد حفل لبنان على مر العقود المنصرمة بنماذج انطبق عليها ما سبق جزئيا، إنما لم يحصل أن تجمعت هذه الخصال في نموذج واحد كما هو حاصل اليوم. إنها ويا للأسف صفة المرحلة وطبيعتها، وسط عجز تام في كل مكان عن لجم هذا التهور المريع الذي يتنامى في رحم الدولة اللبنانية كالورم الخبيث، ونتيجة تفاقمه أن تزداد التوترات يـــومـــا بـــعـــد يـــوم فـــي الاطـــار المحلي، فيما يرتاح الفريق المهيمن على البلاد في قراراتها السيادية والمصيرية، ليتفرغ لقضم المؤسسات والأرض في كل مـــكـــان، ولتـــنفـــيذ وظيـــفته الإقلـــيمية التي هي علّة وجوده.

لن نتوقف عند كل السجالات التي طغت على المسرح اللبناني، فالكلام هنا عقيم، ولا سيما عندما يكون الطرف المعني معميا بالاضواء، والمظاهر السخيفة التي نصر على انها مكاسب ظرفية عابرة، باعتبار ان من يدعي القوة في اللعبة الداخلية هو من الناحية العملية الطرف الأضعف على المدى البعيد، وكل ما يتوهّم أنه يحققه ويراكمه مبني على أرض رخوة وقاعدة مائعة. إنّ من يحتلّون الساحة اليوم بالقلقلة السياسية، محاولين إيهام بعض الناس بأنهم أقوياء، واهمون. فهم أدوات صغيرة في يد الجهة التي تدير الحرب الاهلية الباردة في لبنان من المقعد الخلفي، فيما الواهمون المفتونون بشعبويتهم وعنصريتهم تجاه شركائهم في الداخل، لا بل تجاه كل آخر، لا يرون انهم يهرولون نحو نهاية سيئة لهم أولا وللبلاد ثانيا. إنهم يستثمرون في التحريض الدائم والاستفزاز المستمر، وشيئا فشيئا يدفعون بالآخر الشريك في الوطن الى محاكاة أساليبهم، وصولا الى إيقاظ “الوحوش”

النائمة في كل زاوية من زوايا البلد، وما أكثرها! نخشى ذلك، وخصوصا أننا لا نرى ارتقاء في الأسلوب والمضمون، فيما نحن في السنة الثالثة من عمر ولاية الرئيس الحالي، ويمكن القول إن أحوال البلاد، عوض ان تتحسن وفق ما وعد به الناس، ساءت كثيرا على أكثر من صعيد، في الاقتصاد والسياسة والإدارة والديبلوماسية والثقافة والأخلاق والقيم.

إننا نشعر بأن لبنان في حاجة الى عقلاء أصحاب ثقافة وإدراك وحسّ بالمسؤولية في مواقع القرار الرسمي، لا الى متهوّرين يتميزون بالضحالة الثقافية ويفتقرون الى التعقل والاتزان اللازمين لأي حكم رشيد، وهؤلاء إن لم يدفعوا لبنان الى انهيار اقتصادي بات قريبا، فسوف يدفعونه حتما الى انفجار داخلي أشدّ مضاضة.