لم تكن قضية الإفراج عن نزار زكا مسألة لبنانية صرفة. لم يكن كافياً دخول رئيس الجمهورية ووزارة الخارجية اللبنانية على خطّ الوساطات، وإصدار بيان قبل أيام يشير إلى استجابة طهران لطلب الرئيس ميشال عون. إذ تغير بين ليلة وضحاها كل شيء، ليتبين أن الموقف اللبناني غير مستقيم إيرانياً، أو غير مقبول. أصلاً، وقبل أكثر من شهر، وفي إطلالته مع قناة فوكس نيوز الأميركية، طرح وزير الخارجية الإيرانين محمد جواد ظريف، فكرة تبادل للموقوفين بين إيران والولايات المتحدة، كتعبير عن حسن النوايا للدخول في مفاوضات. ما يعني أن ملف زكا كان من بين هذه الملفات.

بين عون ونصرالله

تأتي خطوة الإفراج عن زكا في لحظة حساسة، تتعلق بتحرّك العديد من القوى الدولية الساعية لإنهاء التوتر الأميركي الإيراني. وعليه، فإن قضية زكا كانت عبارة عن جزء من مفاوضات إيرانية أميركية، بحجمها الصغير، والتي تتعلق عادة بهكذا ملفات قد تفتح الطريق أمام مفاوضات أكبر. فقط عندها، عملت رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية على إيجاد صيغة مقبولة بما يتعلق بالملفات العالقة بين الإيرانيين والأميركيين في لبنان، كمثل ملف ترسيم الحدود، أو ملف الصواريخ الدقيقة. وهناك من يشير إلى أن تلك الوساطة التي استجابت لها إيران، وفق اعتبار أن الإفراج عن زكا لعله يؤدي إلى ترطيب المناخ الإيراني الأميركي، على الأقل محلياً، إن في الضغوط على حزب الله في لبنان، أو بغرض إرسال إشارات إيجابية باتجاه الأميركيين. بهذا الاعتبار، اضطر الإيرانيون إلى تغيير اللهجة، والتي تحدثت بها وكالة "فارس" عن تسليم زكا للسيد حسن نصر الله، من دون أي مفاوضات مع أي جهة أو طرف أو حكومة.

صدور هذا الموقف عن وكالة "فارس" الرسمية، لا بد أنه يرتبط بجملة حسابات، وهي تؤكد بداية أن صاحب الحلّ والربط في لبنان بالنسبة لإيران هو السيد نصر الله، وأن إيران لم تقدّم أي هدية لأي طرف مهما كان محسوباً عليها من دون الحصول على مقابل، وأيضاً أنه عندما قررت طهران الإفراج عن زكا أرادت لتلك الإيجابية أن تكون من حسابها وحساب الحزب وليس من حساب أي طرف آخر. ما يعني أن اللحظة التي اختار فيها الإيراني الإفراج عن زكا، بعيدة جداً عن التحرك الذي بدأته السلطات الرسمية اللبنانية قبل سنة تجاه إيران للإفراج عنه، وهي تأتي بعد البحث عن مخارج لحالة التوتر والتصعيد والذهاب نحو فتح باب المفاوضات.

الإرباك الإيراني 

لا يمكن لهذا التصرف إلا وأن يزعج الرئيس عون، إذ كان بإمكان الإيرانيين عدم إصدار أي موقف يخص تلك المساعي وعدم حصرها بأنها استجابة  لنصر الله وليس لأي طرف غيره. وهذا يعني إما هناك إرباك إيراني في التعاطي مع الضغوط الأميركية، أو أن إيران أرادت إفهام رئيس الجمهورية مباشرة ما قد يكون عتباً إيرانياً على عدم تلبيته زيارة طهران، بعدما وجهت إليه دعوة لزيارتها منذ الأسابيع الأولى لانتخابه ولم يلبّها بعد. لكن حالة الإرباك الإيراني تجاه التعاطي مع الأميركيين لا تنعكس فقط على هذا الملف، بل أيضاً تنسحب على ملفات أخرى، كملف ترسيم الحدود الجنوبية للبنان. ففي بداية تحرك ساترفيلد مجدداً، خرج لبنان ليعلن الانتصار على الاستجابة لمطالبه. لكن، في ما بعد بدأت تلك الحماسة بالخفوت، وصولاً إلى التحذير من الدخول بهذه المفاوضات "كي لا يستغلها العدو الإسرائيلي"، إلى اعتبار أن المفاوضات "ستتعرقل إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية والحصول على بعض المكتسبات من قبل الأميركيين". وأيضاً ينسحب الإرباك الإيراني على الساحة العراقية، إذ جرى تقديم مبادرة تتعلق بتخفيض عديد الحشد الشعبي، فاعتبرت إيران أن هذه رسالة ستكون كافية لبدء المفاوضات. لكن على ما يبدو أن حسابات الحقل الإيراني لم تتطابق مع حسابات البيدر الأميركي.

سبل التفاوض 

كان الإيرانيون يتعاملون مع الإدارات الأميركية المتعاقبة بهذا الأسلوب، ويراهنون عليه للوصول إلى نتائج إيجابية. لكن هذا الأسلوب لم يعد مجدياً في ظل إدارة دونالد ترامب، الذي يعتبر أن هذه الإشارات الإيرانية ليست ذات قيمة، ما يعني أن المساعي التي تقوم بها اليابان يجب أن ترتكز على أسس مختلفة لتلك الأساليب القديمة.

طهران أيضاً لا تريد الذهاب إلى مفاوضات تحت الضغط وتضع نفسها بموقع المتنازل. على الأرجح، ستبحث عن خيارات جديدة إلى جانب الصبر، لعلّ الأميركيين يتراجعون عن السقف المرتفع، وتبدأ المفاوضات المباشرة. من بين خيارات الإيرانيين قد يكون توجيه ضربة كضربتي أرامكو والفجيرة بشكل لا يمس بالمصالح الأميركية مباشرة، على أن تكون رسالة دقيقة جداً وبلا خسائر، تفتح الطريق أمام التفاوض.