مرّة أخرى، وصل لبنان متأخّراً. فبعد إهمالٍ لـ8 سنوات، «إكتشف» لبنان الرسمي أنّ هناك مخاطر توطين حقيقية للنازحين السوريين، واستنتج أنّ المباني الإسمنتية التي بناها هؤلاء في المخيمات ربما تكون مقدّمة للتوطين، فاتخذ المجلس الأعلى للدفاع قراراً بهدمها. ولكن، هل ما زال سهلاً هدم آلاف الأبنية الإسمنتية في المخيمات، بعدما صارت أمراً واقعاً على الأرض... وفي أذهان النازحين؟
 

يجب أولاً طرح السؤال: ألم يصل النازحون إلى هذا العدد الهائل، من دون أن يرفّ جفن لبعض القوى والشرائح التي تعلن اليوم خوفها من التوطين؟ ألم يكن لهذه القوى هدفٌ معين- سياسي أو غير سياسي- من هذه الفوضى في إيواء النازحين؟ 

ولماذا تمّ التغاضي لسنوات عن عمليات البناء الإسمنتي في المخيمات، وتمّ السكوت عن إدخال مواد البناء بالسيارات الخاصة والشاحنات الصغيرة إلى المخيم؟

الجواب هو أنّ كثيرين يتحمّلون اليوم مسؤوليات أساسية عمّا آلت إليه الأمور. فقد تمّ استخدام النازحين ورقة رابحة في التجاذب السياسي والطائفي والمذهبي.

لقد أُعطي النازحون في مخيمات عرسال مهلة (انتهت أمس) لكي يهدموا الأبنية الإسمنتية. ولكن، وفق بعض التقديرات، المقصود بهذا الكلام نحو 5680 غرفة، في 126 مخيماً. وقد نجحت الدوريات الأمنية في إزالة جزء صغير منها، وهي تلك التي سبق أن غادرها أصحابها وباتت شاغرة أو تلك التي تتضمن أجزاء قليلة من الإسمنت في جدرانها. وأما الغرف المأهولة والمسقوفة بالإسمنت والحديد فلم تُمسّ إجمالاً حتى الآن. 

النازحون يقولون إنّهم لا يستطيعون تغطية أكلاف الهدم وإزالة الركام. كما أنّ هذه المباني ذات الجدران أو السقوف الإسمنتية كلّفتهم أموالاً سيخسرونها في عملية الهدم، ولا أحد مستعدّ لتعويضهم. وأما المفوضية السامية للاجئين فتبدي استعدادها لتأمين ما أمكن من بدائل، لكنها غير مؤهّلة لتغطية الأكلاف كلياً.
لذلك، هناك احتقان مثير للقلق يتنامى في المخيمات. وقد سُمِعت أصواتٌ في مخيمات عرسال تقول: «ليس لنا مكان نلجأ إليه. النظام لن يستقبلنا. لذلك، لن نغادر. ولتأتِ الدوريات اللبنانية وتهدم البيوت على رؤوسنا نحن وأولادنا!». 

وهذا الكلام يمكن أن يُنذر بالأسوأ في بيئة يفوق عديدها المليون وربع مليون نسمة، ومحقونة من جوانب عدّة. وعلى الأرجح تخرق مناطق إقاماتها خلايا وجماعات إرهابية يمكن أن تكون جاهزة في أي لحظة لاستغلال الموقف وخلق حالة تفجيرية مع الجانب اللبناني. 

ويبدو واضحاً أنّ السياق الذي دفع السلطة اللبنانية إلى القيام بخطوتها، ولو متأخّرة، هو الآتي:

لقد فقَد لبنان الأمل في ترحيل النازحين السوريين في المدى المنظور. فالحلول في سوريا باتت متأخّرة سنوات وسنوات على الأرجح. وفي المرحلة المقبلة، قد تتجّه الأنظار إلى مسألة النازحين الفلسطينيين واحتمالات توطينهم في بلدان الشتات. وثمة استنتاجات تمّ تداولها أخيراً مفادها أنّ إقامة النازحين السوريين في لبنان ستستمر سنوات طويلة.

وقبل فترة، توقّع مقال نشره موقع «ناشيونال إنترست» الأميركي أن لا يعود اللاجئون السوريون إلى بلادهم قريباً. ونُسب إلى دراسة صادرة عن الأمم المتحدة أنّ فترة لجوئهم ربما تمتد في المتوسط إلى 26 عاماً. وكشف أنّ بين 2016 و2018 عاد إلى سوريا أكثر قليلاً من 143 ألف لاجئ فقط من أصل أكثر من 6.7 ملايين نسمة.

يعني ذلك أيضاً، أنّ الرهان على الوساطة الروسية قد فشل، وأنّ النظام السوري ما زال يرفض حلحلة المسألة، وأنّه يزيد الوضع تعقيداً من خلال الإجراءات الأمنية والإدارية والعقارية والديموغرافية التي يفرضها في الداخل. وهناك مخاوف لبنانية من فتح ملف النزوح مع الجانب السوري بسبب احتمال تحويله عملية ابتزاز قد تشمل ملفات أخرى كترسيم الحدود براً وبحراً والمساومة على ملفات سياسية واقتصادية وأمنية. 

في أي حال، إذا نجح لبنان في هدم الأبنية الإسمنتية في المخيمات، فإنّ التداعيات قد تكون كبيرة، لأنّ ما يقارب من 30 ألف نازح سوري في عرسال وحدها سيكونون أمام استحقاق إيجاد مساكن بديلة، في المكان نفسه أو في أماكن أخرى. وربما يجرّب البعض حظّه في العودة إلى سوريا. 

ولكن، إذا أصرّ النظام السوري على عدم تسهيل العودة، فإنّ هذا الفائض من النازحين الذين كانوا يقيمون في الإسمنت، ربما «ينفلش» عشوائياً في كثير من المناطق السكنية اللبنانية، الحدودية والداخلية. وهذا «الانفلاش» ربما يكون أسوأ من حصر الإقامة في مخيمات بقاعية لها حدودها وموضوعة تحت مستوى معين من الرقابة الأمنية.

أما إذا فشلت الدولة اللبنانية في تنفيذ قرار الهدم كلياً، فستكون هناك تداعيات أخرى. وهذا الاحتمال وارد جداً بعد ارتفاع أصوات ترفض القرار، وفي ضوء الدعم الذي تلقّاه النازحون من منظمات إنسانية دولية، تحت عنوان مراعاة حقوق اللاجئ. 

بالنسبة إلى هذه المنظمات، العودة إلى سوريا متعذرة، حتى إشعار آخر، لأنّ الظروف لم تتوافر بعد. وصحيح أنّ الحرب توقفت في عدد من المناطق، إلا أنّ قوات النظام ليست في وارد تسهيل العودة. وهناك أعمال الثأر بين أبناء القرى والمجتمعات التي تناحرت خلال مراحل النزاع.

ويتحدث هؤلاء عن اتجاه إلى تكريس تغييرات ديموغرافية في بعض المناطق وعن دور لميليشيات غير حكومية وعدم حل مشكلة التجنيد الإلزامي والمنشقين أو الفارين من الجيش السوري النظامي، والدمار الهائل في البنى التحتية.

وفي أي حال، إذا فشلت الدولة في تنفيذ قرارها على أرضها، فستكون قد أصيبت بنكسة كبيرة بالمعنى السيادي. وهذا الفشل سيقود إلى تكرار السيناريو الذي شهدته المخيمات الفلسطينية: في البداية مدنيون هاربون من القتل يحمون رؤوسهم وأطفالهم تحت سقوف «التنك». ثم يدخل الباطون لحماية أفضل، ثم تبدأ الحماية الذاتية. وبعد ذلك، القصة تصبح معروفة.

للتذكير فقط، هدّدت «لجنة العمل الوطني السوري» بملاحقة السلطات اللبنانية أمام المحاكم الدولية «أياً كانوا وتحت أي مسمّى وظيفي»، بسبب «هدم خيام اللاجئين بحجج واهية وترك الاطفال والنساء في العراء». وقالت، «إنّ جرائم الإختفاء القسري والاعتقال التعسفي وجرائم الإبادة الجماعية لا تسقط بمرور الزمن».