ذات يوم، أوقفت الأجهزة الأمنية اللبنانية الشيخ المتطرف عمر بكري فستق. بعيد إيقافه، ناشد فستق الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، للتدخل من أجل إخراجه من السجن. أوكل حزب الله النائب نوار الساحلي محامياً للدفاع عن فستق، وعمل على إطلاق سراحه. يومها ناشد فستق حزب الله باسم الدين والإسلام (طبعاً إطلاق سراح فستق كان قبل إيقافه مرة ثانية في العام 2014، بعيد بروز تنظيم داعش). ومن لا يذكر فستق، فهو الذي كان ضيفاً دائماً على قناة "أو تي في" التابعة للتيار الوطني الحر، وكان يغدق نظرياته المتطرفة ما قبل اندلاع الثورة السورية وما بعدها. والغاية من إقامة فستق شبه الدائمة على القناة البرتقالية، كانت واضحة: ترويج صورة محددة عن السنّة، واستثمارها من قبل التيار الوطني الحرّ في الشارع المسيحي، دعماً لنظريته أن الخطر الإرهابي السني يتهددهم.

"البيئة الحاضنة" 

كانت تلك السياسة، من الأعمدة الأساسية التي ارتكز عليها التيار لتجييش جمهوره وتعبئته. وهي التي يلجأ إليها دوماً في لحظات الحاجة إلى توسيع مروحة المؤيدين لخياراته. ثم أن ما أوحى به حزب الله يوم تدخل لإنقاذ فستق من السجن، لمختلف القوى السياسية والشعبية في لبنان، هو أن إنقاذهم من أي ورطة أو تهمة توجه إليهم، تقع على عاتقه، وهو الكفيل بمنحهم صكوك البراءة من تهمة الإرهاب. وكان الحزب يستهدف بذلك المجموعات السنّية (لبنانية وغير لبنانية..) التي تشعر بضعف، وتطلب العون.

ما حدث بعد العملية الإرهابية التي استهدفت طرابلس ورجال الأجهزة الأمنية والعسكرية الساهرة على حماية المدينة وأهلها، لا يخرج عن السياق السابق، لا لناحية الحدث، ولا لجهة تداعياته. فالتيار الوطني الحرّ ركز هجومه على المدينة وأهلها، وأعاد الإيحاء بلعبة البيئة الحاضنة للإرهاب، تماماً كما هو المشهد على وسائل التواصل الإجتماعي حيث تقوم جماهير "المطاوعة" بوصف كل من يرثي عبد الباسط الساروت مثلاً بأنه من بيئة حاضنة للإرهاب. واستمرت تلك الحملة على طرابلس، من خلال موقف وزير الدفاع الياس بو صعب حين اعتبر أنه لا بد من فتح تحقيق لمعرفة كيف تم إطلاق سراح الإرهابي عبد الرحمن المبسوط. والمبسوط أوقف مرتين. الأولى، بعيد عودته إلى لبنان من سوريا، ولمدة أكثر من سنة وأخلي سبيله من قبل المحكمة العسكرية. والثانية، أوقف من قبل مخابرات الجيش للإشتباه به ومن ثم أخلي سبيله أيضاً. لكن بو صعب أراد لموقفه أن يدخل في حسابات التصفية السياسية.

وضع موقف بو صعب في سياق الحملة المركزة التي تعرضت لها طرابلس، والتي تزامنت مع حملة سياسية ضد رئيس الحكومة سعد الحريري، وضد مختلف "القيادات السنية"، من الإتهامات التي وجهت إلى اللواء أشرف ريفي، أو الرئيس فؤاد السنيورة، أو الرئيس نجيب ميقاتي، الذي اتُهم بأنه راع للإرهاب، و"هو الذي أوكل محامين للإفراج عن بعض الموقوفين الإسلاميين". وقد يكون الهجوم على السنيورة وريفي والحريري مبرراً بالنسبة إلى أفرقاء الطرف الآخر، بينما يبقى المستغرب هو الهجوم على ميقاتي، واتهامه برعاية الإرهاب أو الدفاع عنه. والغاية من الهجوم على ميقاتي، لا تخرج عن سياق الهجوم المركز الذي يتعرض له كل السنّة، خصوصاً أنه غير محسوب على الحريري أو على خصوم حزب الله.

التركيز على ميقاتي 

وهنا لا بد من استذكار محطتين أساسيتين جرى فيهما الهجوم المركّز على ميقاتي. الأولى، بعيد أول اجتماع لرؤساء الحكومات السابقين، والذي عقد لأجل الدفاع عن صلاحيات رئيس الحكومة، ففتحت بعض ملفات ميقاتي حول قضية الإسكان. والهجوم الحالي، يأتي بين الاجتماع الأخير الذي عقد لرؤساء الحكومات السابقين، والبيان الذي صدر عنه، رداً تصريحات جبران باسيل، وعلى خطاب حسن نصر الله الأخير، وتأكيد البيان على أن رئيس الحكومة هو الذي يتحدث باسمها، والإشارة إلى أنه لا يمكن السكوت عن استهداف موقع رئاسة الحكومة أو قضم صلاحياته. فخرجت الاتهامات مجدداً نحو ميقاتي بوصفه مدافعاً عن الإرهاب. وهذه الاتهامات لها هدف واحد، إفهام القيادات السنية بأنها ستبقى في عين الاستهداف ما لم تكن مطواعة في يد الخصوم، ومنعها من مساعدة الموقوفين (السنّة أو الإسلاميين)، بل من يريد المساعدة عليه أن يطلبها من حزب الله، ومعروفة هي الجهة القادرة على التأثير على قرارات المحكمة وأحكامها.

اتصالات وكواليس

وعلى ما يبدو أن تلك الحملات نجحت مجدداً، بفعل الاتصالات التي جرت في الكواليس طوال الأيام الماضية، استباقاً لعودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان. إذ تشير المعلومات إلى أنه سيزور القصر الجمهوري للقاء رئيس الجمهورية، وعين التينة للقاء الرئيس نبيه بري، للبحث في تخفيف التوتر، على قاعدة الحفاظ على التسوية والحكومة. وكان الحريري قد سأل حزب الله بطريقة أو بأخرى عن موقفه من الهجمة التي يتعرض لها، حينها دخل الحزب على خطّ التهدئة، وبدأت عملية إعادة الاعتبار شكلياً لرئيس الحكومة، سواء بموقف باسيل عن التمسك بالتسوية، وإن أي خلاف يحلّ بالحوار.. أو بزيارة وزير الدفاع إلى طرابلس ولقائه المفتي الشعار المقرب من الحريري، في إشارة إيجابية إلى الأخير.

هذا المسار، يوضح أن التسوية في طور التجديد، بعد كل الحملات التي حصلت، وبعد وضع الحريري في الزاوية الضيقة، أي خانة الحفاظ على الحكومة، بعيداً عن معركة الصلاحيات، أو الدفاع عن "حقوق السنّة". وهذا ما سيركز عليه الحريري بعد عودته، عبر تقديم نفسه كرجل الدولة صاحب الصدر الواسع، والذي يدفع كل شيء في سبيل المصلحة الوطنية، بعيداً عن الحسابات السياسية والطائفية. وطبعاً منطق الحريري هذا، يستثمره الآخرون إلى النهاية، منذ إبرام التسوية أو (اتفاق المصالح) وصولاً إلى التسليم بقانون انتخاب أفقد الحريري وحلفاءه الأكثرية النيابية وأضعفه إلى أقصى الحدود.