دلّت أكثر من محطة في السنوات الأخيرة انّ تيار «المستقبل» ما زال القوة الأكبر سنياً، وانّ كل الرهانات أو التقديرات بتراجع شعبيته داخل بيئته لم تكن صائبة على رغم الظروف الصعبة التي واجهها على أكثر من مستوى، وقد أظهرت الانتخابات النيابية الأخيرة انه ما زال يحتفظ بشعبية وازنة في كل المناطق، وانّ المنافسة الوحيدة التي تعرّض لها هي من الفريق السني المعارض لتوجّهات «المستقبل» والذي استفاد من القانون النسبي للانتخابات.

وعلى رغم الاعتراض السني الشعبي على دعم «المستقبل» انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، إلّا انّ الرئيس سعد الحريري نجح باحتواء الرفض السني على غرار محطات سابقة ولاحقة من قبيل الـ»سين-سين» ولقائه مع الرئيس السوري بعد سنوات من اتهامه باغتيال الشهيد رفيق الحريري، والمساكنة مع «حزب الله» وتحديداً على أثر اغتيال الشهيد محمد شطح، وبالتالي نجح في قيادة الشارع ولو خلافاً لمزاج هذا الشارع.

واعتقد الحريري انّ انتخاب عون رئيساً سيكون كفيلاً بردم الهوّة بين التيارين وبين البيئة السنية و«التيار الوطني الحر»، ولكن ما حصل خلاف ذلك تماماً، إذ بقيت العلاقة من فوق عكس المزاج من تحت، والحقيقة انّ باسيل لم يساعد الحريري على هذا المستوى، بل كل تصرفاته ومواقفه أحرجت رئيس الحكومة أمام شارعه، ولا حاجة إلى تعداد التجاوزات والاستفزازات التي كان بغنى عنها باسيل من قبيل إثارته مسألة الصلاحيات مثلاً إبان تأليف الحكومة الحالية من باب الضغط السياسي، فيما يعلم تمام العلم أنه غير قادر على تعديل فاصلة واحدة ممّا هو مكتوب، وبالتالي ما الفائدة من إثارة مسائل تسبّب الضرر فقط وتؤدي إلى تعبئة الشارع السني ضده؟

ولا يحتاج الحريري إلى استطلاع رأي ليتثبّت من النقمة السنية على باسيل، ودخول النائب نهاد المشنوق ورؤساء الحكومات والمفتي لم يكن مفتعلاً، بل جاء في سياقه الطبيعي توقيتاً بفعل الاحتقان من ممارسة غير متوازنة ومواقف متهوّرة، وقد واكب الحريري هذا الجوّ بتصعيد من قبل تياره تجنّباً للظهور أنه في واد وشارعه في واد آخر، وبالتالي حاول امتصاص النقمة من جهة، والاستفادة من هذه النقمة من جهة ثانية لإفهام باسيل انّ سلوكه قد يؤدي إلى ما لا يُحمد عقباه، ولكن عندما لمس وجود محاولة قد يكون هدفها الضغط عليه بدلاً من الاكتفاء بمهاجمة باسيل استدار باتّجاه الداخل ليقول كلمته ويوجّه رسالته.

وإذا كان قد حصل، ربما، سوء تقدير عفوي او محسوب من قبل المشنوق او غيره واستدعى ردّ الفعل المعلوم، إلّا أنه من مصلحة الحريري الاستفادة من ركائز القوة داخل الطائفة السنية لتحصين وضعه، وهذه الركائز تبدأ من دار الفتوى ورؤساء الحكومات، ولا تنتهي بالمشنوق واللواء أشرف ريفي وغيرهم، خصوصاً انّ شراكته مع العهد لم تكن بحجم التوقعات، فيما ليس من مصلحته مخاصمة أركان طائفته مقابل تسوية غير مضمونة، ومقابل وضع سني يحظى برعاية «حزب الله» واحتضانه.

فأن يكون الحريري محاطاً بمرجعيته الدينية والشخصيات الوازنة معنوياً ًداخل بيئته يصبّ في خانته ومصلحته تعزيزاً لدوره وترسيخاً للتوازن مع القوى الأخرى، لا سيما انّ هذه الشخصيات تدرك انّ حدود دورها يراوح بين دعم الحريري أو النأي عنه، لأنّ معارضته تشكل ضرراً على الخط السني العام ولا تفيد أصحابها بشيء كون العباءة السعودية محصورة بالحريري الذي لا بديل عنه بالنسبة إلى المملكة مهما قيل ويقال.

وتجربة اللواء ريفي أقوى دليل أن لا أفقَ خارج الحريرية السياسية، ويسجَّل في هذا السياق لريفي جرأته في مراجعة مساره بعدما وجد انّ المستفيدين من استمراره في الاتجاه نفسه هم أعداء هذا الخط السني الوطني، وبالتالي لم يجد حرجاً في تعديل تموضعه ربطاً بالمصلحة العليا، ولكن في المقابل على الحريري توظيف هامش التباين التكتي والشكلي مع رؤساء الحكومات والمشنوق وريفي وغيرهم من أجل تحصين وضعه الوطني، إذ عليه الاستفادة من كل عوامل قوته بدلاً من الاكتفاء بالبعض منها.

ولعلّ أبرز عوامل قوة الحريري تكمن في الآتي: العباءة السعودية، التمثيل الشعبي العابر للمناطق، شبكة العلاقات الخارجية، رجل المرحلة حكومياً وشريك التسوية سياسياً، وعلى رغم ذلك فإنّ وجود شخصيات وازنة الى جانبه تشكل داعمة لدوره في مواجهة خصومه وحلفائه الجدد في آن معاً.

وحيال كل ما تقدّم، فإنّ الاعتراض السني ومهما كبر وتعاظم فسيبقى غير قابل للترجمة على أرض الواقع إذا كان ضد توجّهات الحريري وإرادته، وبالتالي أيّ اعتقاد أو رهان بأنّ الشارع السني سينتفض على الحريري هو اعتقاد ورهان في غير محله، وعلى رغم أنّ النقمة السنية هي نقمة فعلية وحقيقية، إلّا أنها ستبقى مضبوطة تحت سقف الحريرية السياسية، وبما انّ رئيس «المستقبل» يريد أن يحتوي الموقف مع باسيل لمجموعة أسباب واعتبارات نفصِّلها في مقال لاحق، فإنّ الغضب السني سيبقى مكبوتاً ويتّجه الى الاحتواء لا التفاقم.

فلا أفق لأيِّ اشتباك سني على أيّ خط من الخطوط إذا لم يكن «المستقبل» في طليعته، وما حصل يمكن أن يقدّمه الحريري لباسيل كبروفا عن مواقف غير مدروسة وسلوك فوقي مرفوض سنياً ومن قبل الجميع، وإلى أين يمكن أن يقود البلد والمتضرّر الأول منه العهد والتسوية، ولكنّ الثابت والأكيد أن لا إرادة لدى أحد بالذهاب أبعد من ذلك، وبالتالي الأسبوع الطالع سيشهد عودة إلى ما قبل الاشتباك.