بعد أسبوع على مسلسل «قمم مكة» أظهرت الوقائع كثيراً ممّا تمّت قراءتُه في مقرراتها منذ اللحظة الأولى. فقد كانت المفاجأة بحسب ديبلوماسيين غربيين أنها حملت ما يكفي ممّا يعارض التوجهات الرئاسية الأميركية في المنطقة وتحديداً في «صفقة القرن» ولم تأتِ بجديد بالنسبة الى إيران. فكيف يمكن قراءة ذلك؟ وهل حرقت بعضاً من المراكب مع واشنطن قبل طهران؟
 

لم تأتِ الأيام السبعة التي تلت «قمم مكة» الخليجية، العربية والإسلامية بجديد. فالقراءة الأوّلية التي أُجريت لما تقاطع وتلاقى في بياناتها الثلاثة والوثائق الملحقة بها أوحى بكثير من العناوين التي عبّرت عنها وفي مقدمها رفض واضح وصريح لكل ما يجري تحضيره لما سُمّي «صفقة القرن»، قبل أن تؤكد المؤكد لجهة رفض التوسّع الإيراني ووضع حدّ لإعتداءات طهران التي تدرّجت الى حدود تفجير البواخر الأربع في ميناء الفجيرة وضرب خط نقل النفط من شرق المملكة الى غربها.

فقد اظهرت المواقف المعلنة منها تجاهلاً لمساعي مستشار الرئيس الأميركي جاريد كوشنر وفريقه الذي يقود مساعي السلام لحل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي كما يراه في ذروة الإحتقان الذي تعيشه المنطقة. وكأنّ ما هو مطروح يمكن أن يؤدّي الى الفصل بين ما يُسمّى النزاع العربي ـ الإسرائيلي والنزاع بين الدولة اليهودية والسلطة الفلسطينية حصراً من دون أن يحتسب ما دون ذلك من عوائق خارج إطار المجتمع العربي. والى ما هو ابعد من ذلك في اتّجاه الرفض الأوروبي لمثل هذه الخطة والتشكيك الأميركي بها.

لا يتجاهل الديبلوماسيون أنّ القمم تزامنت والجولة الاولى لكوشنر وفريق عمله في المنطقة والتي شملت كلاً من المغرب والأردن وإسرائيل في أولى محطاتها. وكان من الواضح تلاقي ما انتهت اليه القمم وما سمعه الموفد الأميركي في الرباط وعمان وتحديداً في الأردن التي خرج ملكها عبدالله الثاني ليعيدَ تأكيد الثوابت التي تتجاهلها خططه لـ«مشروع الدولتين» والقدس والضفة الغربية، كما بالنسبة الى عملية تبادل الأراضي وحدود ما قبل حرب الـ 67 سعياً الى إلغاء الوجود العربي فيها.

ولم تكتمل الصورة التي تلت مسلسل القمم إلّا بالمواقف المتقدمة لوزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو الذي قدم قبل ايام عرضاً شكّك فيه بإمكانية نجاح «صفقة القرن» في ظلّ المعادلات القائمة في الداخل والخارج. فبومبيو يدرك جيداً المعوقات أمام الخطط السرّية لكوشنر وفريقه. وما تسرّب منها لا يوحي بإمكان توفير الحدّ الأدنى من الإجماع العربي والدولي حولها. وبالإضافة الى سلسلة ملاحظات الكونغرس الأميركي الذي تجاهله قرار رئاسي ينفّذه كوشنر وتلك التي عبّرت عنها أجهزة المخابرات ومجلس الأمن القومي الأميركي، فالعالم بأسره لم يعترف بعد بقرار ترامب بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ولا بمدّ السيادة الإسرائيلية الى اراضي الجولان المحتل وبلا وقف التمويل الأميركي لوكالة «الأونروا»، لا بل فقد سارعوا الى نجدتها بالمال اللازم لضمان خدماتها في الداخل الفلسطيني والخارج تارة تحت عناوين إنسانية وأخرى من اجل مواجهة الإرهاب.

ولذلك، يرى الديبلوماسيون أنّ جولة كوشنر الأوروبية الجديدة التي يستعد لها لن تؤتي بجديد فهو يدرك حجم العتب الأوروبي لتجاهل عواصمهم في كل ما يفكر ويسعى اليه. فثمة عواصم ومن بينها برلين وباريس مثلاً لم تستوعب بعد القرارات الأميركية المالية والإقتصادية التي اتخذها ترامب والتي أعاقت التجارة البينية مع واشنطن على خلفية اعتبارها «القارة العجوز».

على هذه الخلفيات، يبني الديبلوماسيون قراءاتهم لقمم مكة في اعتبار قراراتها قاسية في حقّ الأميركيين الى درجة تهدّد بنسف الجسور التي مدّها ترامب وفرشتها العواصم الخليجية بمليارات الدولارات، فإذا بها تُحرجهم في كل محطة اساسية تعني القضية الفلسطينية التي لم يسقطوها بعد من اولوياتهم العربية والإسلامية، مع الخشية من السباق المزعوم مع طهران التي ترغب بتظهيرهم وكأنهم هم مَن باعوا القضية وقدسها.

وعليه، فقد كانت مقررات القمم، ولا سيما منها القمة الإسلامية موجّهة الى إسرائيل والإدارة الأميركية. فهي من وجهت الدعوات الى كل من إيران وطهران لحضور القمة الإسلامية دحضاً للاتّهامات الإيرانية ومحور الممانعة بالتخلّي عنها واعتبار القضية الفلسطينية «قضية مركزية». وإنّ السلام والأمن كخيار استراتيجي لن يتحقّقا إلّا بانسحاب إسرائيل الكامل من أرض دولة فلسطين المحتلة منذ العام 1967، وفق القانون الدولي وما نصت عليه القرارات الدولية ومبادرة السلام العربية. كذلك دانوا نقل سفارتي الولايات المتحدة الأميركية وغواتيمالا إلى القدس والاعتراف غير القانوني بها عاصمة لإسرائيل ودعوا دول «منظمة التعاون الإسلامي» الى مقاطعة الدول التي فتحت البعثات والمكاتب لديها وقطع العلاقات الاقتصادية ووقف كل أشكال التطبيع حتى تنفيذ القرارات الخاصة بفلسطين والقدس وإقامة السلام العادل والشامل في المنطقة.

ومن دون الدخول في التفاصيل، فقد تقدّمت هذه التوصيات مقرّرات القمة في بيانها الختامي ومعها إدانة «القرار الأميركي بضم الجولان للأراضي الإسرائيلية»، واعتباره «قراراً غير شرعي ولاغياً ولا يترتّب عليه أيّ أثر قانوني». قبل الإشارة الى دور إيران في المنطقة وشكواها الدائمة منها قبل اتهامها بتفجيرات الفجيرة وخط الأنابيب السعودي بعد احداث اليمن والبحرين.

وعدا عن ذلك كله يبقى المستغرب في نظر الديبلوماسيين الاتّهام الذي وُجِّه الى رئيس الحكومة سعد الحريري في القمم وخروجه عن سياسة «النأي بالنفس». فجاء الرد واضحاً في بيان القمة الإسلامية بتقديم ملف لبنان على الملفات الأخرى. فهو تجاهل للمرة الأولى أيّ إشارة الى «حزب الله» ودوره الإقليمي ـ وهو ما حال دون تحفّظ لبنان - وأعطى اللبنانيين «الحق بمقاومة أيّ اعتداء بالوسائل الشرعية»، ودعا الى تطبيق القرارات الدولية بما فيها القرار 1701، ووجّه التحية الى لبنان لإستضافته النازحين السوريين. كما أعطاه حقه بالمنطقة الإقتصادية الخالصة من دون أيّ تنازل وعن حقه في الإحتفاظ بثروته النفطية. فهل يستحق ذلك مثل هذه الإدانة؟

وتأسيساً على ما تقدّم، لا يستطيع أيّ ديبلوماسي إلّا أن يقرأ في القمة نهجاً يؤدي الى نسف الخطط الأميركية للمنطقة وما سُمّي منها «صفقة القرن» تحديداً، وخصوصاً إذا كانت هذه هي عناوينها المرفوضة قبل أن تقلع وعشية «مؤتمر المنامة». ولذلك يصحّ السؤال هل يمكن أن تكون «قمم مكة» قد حرقت المراكب مع واشنطن وإدارة الرئيس الأميركي قبل طهران؟