ما بعد عملية طرابلس ليس كما قبلها. فحتى إشعار آخر، إرتاحت القوى العسكرية والأمنية من جدالات كانت على وشك أن تورِّطها في تجاذبات ذات طابع سياسي أو طائفي- مذهبي أو مالي، كالجدل الذي كان منتظراً حول التدبير الرقم 3..
 

بعد عيد الفطر، ستنطلق نقاشات الموازنة في المجلس النيابي. ولكن، على الأرجح، كثير من الكلام الذي كان البعض ينوي قوله سيقوم بـ»ابتلاعه»، خصوصاً ذلك المتعلق بالتدبير الرقم 3.

أساساً، لم يستكن قائد الجيش العماد جوزف عون بعد إخراج الموازنة من الحكومة. اختار مكاناً له رمزيته، هو متحف فؤاد شهاب، أبو الجيش وباني المؤسسات ونموذج المقاتل ضد الفساد، ليطلق كلاماً غير مسبوق حول التدابير العسكرية والفساد والسياسيين.

بدا العماد وكأنه استشرف ما سيجري - بعد ثلاثة أيام فقط - في طرابلس، فقال: «ربّما غاب عن بال البعض، بغير قصد أو بقصد، أنه على رغم من الاستقرار الأمني، فإن التحدّيات كبيرة سواء عند حدودنا الشرقية والجنوبية والبحرية أو في الداخل». وتحدث عن «نيات استهداف» من خلال مناقشة الموازنة «التي بدت مجحفة في حق المؤسسة».

أعرب عن استيائه «إذ لم يُترك للجيش خيار تحديد نفقاته، وباتت أرقام موازنته مستباحة وعرضة للتحليلات، وكأنّ المقصود إقناع الرأي العام بأنّ الجيش يتحمّل سبب المديونية العامة… فما أفرزته الموازنة حتى الآن من منع التطويع بصفة جنود أو تلامذة ضباط ومنع التسريح يُنذر بانعكاسات سلبية على المؤسسة العسكرية بدءاً من ضرب هيكليتها وهرميتها مروراً بالخلل في توازنات الترقيات وهو أمر مخالف لقانون الدفاع».

وذهب قائد الجيش إلى التحذير من «سلوك متعمّد لتطويق المؤسّسة العسكرية بهدف إضعافها وضرب معنويات ضباطها وجنودها». وقال: «عهدٌ ووعدٌ منّا بأننا لن نستكين».

هذا الكلام الكبير كان نصف الطريق نحو إنهاء الجدل في ما يتعلق بموازنة الجيش. وجاءت عملية «الذئب المنفرد» عبد الرحمن مبسوط في طرابلس لتمنح هذا الكلام رصيداً كاملاً عشية جلسات الموازنة في المجلس النيابي. وبعد اليوم، لن تتمكن أي قوة سياسية من لعب ورقة التدبير الرقم 3 أو سواه من المسائل المتعلقة بالجيش.

الفكرة المتداولة هي أن يتولّى المجلس الأعلى للدفاع حسم هذه المسألة، لئلا يغرق فيها السياسيون ويحولوها مادة مساومة أو «حرتقة» متبادلة في ما بينهم. ولكن، الواضح أنّ الجيش وفق تأكيد قائده يريد أن تُترَك له مسألة موازنته وتقدير تفاصيلها، لأنّه الأدرى بحاجاته، مع التزامه التام مسار التقشف المطلوب، كما يفعل منذ سنتين. ففي العام الفائت، أعاد الجيش إلى الدولة أموالاً من موازنته لم يستخدمها.


في نظر بعض المتابعين، إنّ عمق المشكلة يكمن في انعدام الثقة بقرارات الطاقم السياسي. فالعسكريون، كما كل الشرائح الأخرى، مستاؤون من أنّ هذا الطاقم السياسي يرتكب الموبقات، ويرفض وضع اليد على المليارات الضائعة في المزاريب المعروفة، لكنه يستسهل أخذ اللقمة من أفواه الضعفاء.

وإزاء هذا التشدّد، ستكون هناك مشكلة تزداد حدّة في الموازنة. وأزمة الأسلاك العسكرية سترخي بثقلها على الجلسات المنتظرة. وبالتأكيد هي ستقود إلى انعكاسات مهمة على الموازنة المقدّرة وأرقامها. فالرقم المعطى في مجلس الوزراء قد لا يصمد في مجلس النواب.

وهذا التحدّي يضاف إلى تحدّيات أخرى، ما يثبت أنّ هذه الموازنة أُعدّت اعتباطياً وأنّ أرقامها قد لا تكون أفضل حالاً من أرقام موازنة العام الفائت، علماً أنّ ستة أشهر كاملة مضت من العام 2019، وأن لا قطع حساب يُعوَّل عليه للتحقق من الأرقام الحقيقية.

وعندما يقف العسكريون في وجه التدابير التي تطاولهم في الموازنة، فمن المتوقع أن يتصلّب أكثر كل الآخرين المستهدفين بتدابير مماثلة، ومنهم الأساتذة مثلاً. وطبعاً، لا يمكن إغفال الاعتراضات الأخرى الصادرة عن قطاعات اقتصادية، كالقطاع المصرفي. ووحدهم الناس العاديون الذين ستُفرض عليهم ضرائب ورسوم جديدة، لن يعترضوا، لأنّهم لا يجتمعون في إطار تنظيمي يمنحهم القدرة على ممارسة الضغط.

وفي هذا المناخ، سيكون مبرراً السؤال: هل الموازنة التي ستخرج من مجلس النواب تشبه النسخة الصادرة عن مجلس الوزراء؟ وتالياً، هل يمكن لبنان أن يقدّمها إلى الدول المانحة ورعاة مؤتمر»سيدر» لإثبات التزامه معايير الإصلاح؟

منذ اللحظة الأولى، يتمّ التعاطي بعشوائية وسلوك اعتباطي في مسألة الموازنة. بل إنّ أحد السياسيين المتابعين عن كثب يقول: «هناك احتيال ومخادعة للمجتمع الدولي. إلا أنّها مكشوفة». ويضيف: «الاتصالات التي جرت وتُجرى بين المسؤولين اللبنانيين ورعاة «سيدر» لا تسير وفق ما يشتهي الجانب اللبناني. وهناك كلام صريح يقوله الفرنسيون وسواهم عن سوء إدارة واضحة لهذا الملف في لبنان، من دون أي مبرر منطقي». ولعلّ طلائع الإشارات إلى هذه الشكوك عبّرت عنها وكالة التصنيف العالمية «موديز» في قراءتها السلبية للموازنة. وقد تليها مؤسسات أخرى.

وفي هذه الحال، قد لا يكون الرهان على تحصيل أموال «سيدر» أفضل من الرهان على النظافة لدى الطاقم السياسي الممسك بالسلطة… إلا إذا كانت لدى القوى الكبرى دوافع أخرى لتزويد لبنان مقومات الاستمرار. وفي هذه الحال، سيُمنح من الدعم ما يمكِّنه فقط من البقاء على قيد الحياة لا أكثر... ولفترة معينة!