أثار كلام الوزير جبران باسيل عن السنّية السياسية عاصفةً من الردود السنّية الدينية والحكومية والسياسية والحزبية والشعبية، ما استتبع ثلاثة تساؤلات أساسية عن مصير التسوية الرئاسية، ومستقبل العلاقة بين التيارَين، وموقف «حزب الله» من هذا الاشتباك؟
 

لم يكن باسيل يتوقع أن يولِّد كلامُه عن أنّ «السنية السياسية جاءت على جثة المارونية السياسية» كل هذه الردود، لأنه يعتبر انّ ما قاله جاء مكرَّراً، ولو بصيغة مختلفة، ولكن رد الفعل لم يكن بسبب هذه العبارة حصراً، بل هو نتيجة تراكمات بدأت مع تأليف الحكومة والدعوات الى إعادة النظر في صلاحيات الرئيس المكلف ومدة التكليف، ولم تنتهِ مع التسريبات أو محاولات استبعاد المدير العام لقوى الأمن الداخلي ورئيس مجلس إدارة شركة طيران الشرق الأوسط وحاكم مصرف لبنان وغيرها من التعيينات التي تمكنه من الإمساك بمفاصل الدولة، وما بينهما الممارسة السياسية التي تنمّ عن فوقية وتعطي انطباعاً بوجود مَن ينافس رئيس الحكومة على طاولة مجلس الوزراء، وقد ظهر هذا الأمر فاقعاً في جلسات الحكومة حول الموازنة وتحديداً مع إصرار باسيل على مناقشة ورقته الاقتصادية التي كانت نوقشت غالبية بنودها وكان يُفترض أن يقدّمَها في الجلسة الأولى والثانية وليس في الجلسة الـ12.

فالانفجار السياسي غير المسبوق منذ التسوية الرئاسية هو نتيجة تراكمات و»قلوب مليانة» وجدت الوقت المناسب للتعبير عن غضبها، وقد ساهم موقف النائب نهاد المشنوق من دار الإفتاء بنحو اساسي في نقل النقاش من الحيز الإعلامي ومواقع التواصل إلى الحيز السياسي من خلال الكلام الكبير الذي قاله سواء لجهة ضرورة إعادة النظر في العلاقة مع هذا المكوِّن، أو لجهة عدم جواز مواصلة السكوت على شخص يعتدي على الجميع مداورة، أو في رفض المساس برئيس الحكومة دوراً وصلاحيات، الأمر الذي استدعى اجتماعاً عاجلاً ورداً من الرؤساء نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام، وتوِّج برد من مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان.

وقد أعاد هذا الجوّ السنّي إلى الأذهان الحقبة الانقسامية بين 8 و 14 آذار، وعندما كان «التيار الوطني الحر» في موقع رأس الحربة ضد تيار «المستقبل»، ولكنّ التيار الأول وعلى رغم من التسوية والعلاقة المميزة التي نسجها مع الرئيس سعد الحريري، لم يستطع أن يخرق وجدان البيئة السنية التي ظلّت تتعامل معه ببرودة تامة إلى أن فجّرت احتقانها المكبوت منذ سنوات.

ولا شك في انّ باسيل لم يكن يريد إحراج الحريري ولا الوصول إلى حافة الغضب السنية، إنما في سياق محاولة انتزاع شرعيته المسيحية، يعمل على مواجهات مفتوحة ويريدها مضبوطة تمسّكاً بالتسوية التي تمنحه الدور المتقدم، وتجنّباً لعدم الوصول إلى القطيعة السياسية ربطاً بترشيحه الرئاسي، إلّا انّ الأمور خرجت عمّا هو متوقع واضعة الحريري أمام إشكالية مزدوجة: إشكالية أن يواصل علاقته مع باسيل وكأنّ شيئاً لم يكن، الأمر الذي ينعكس سلباً عليه داخل بيئته بعد الموجة الاعتراضية الواسعة على باسيل، وإشكالية أن يعدّل في طبيعة العلاقة مع العهد واستطراداً باسيل تحت سقف التسوية القائمة بينهما.

وما طرحه المشنوق ليس الإطاحة بالتسوية العامة التي لا أحد في وارد الإطاحة بها تمسّكاً بالاستقرار السياسي والانتظام المؤسساتي في ظلّ غياب البدائل والخشية من أن يؤدّي انهيارُ التسوية إلى انهيار البلد، إنما تعديلاً في الممارسة المتّبعة التي حالت وتحول دون اكتساب ثقة الناس، وخلّفت انطباعات في غير محلها لجهة محاولات باسيل القضم من صلاحيات رئيس الحكومة بحجة امتلاكه «الثلثَ المعطِّل» الذي يمكِّنه من اتّباع دور السوبر وزير على رغم من أنه لا يملك هذا الثلث فعلياً في اعتبار أنّ وزيرَين من وزرائه يمون عليهما «حزب الله»، وحتى لو كان كذلك فإنّ هذا الأسلوب غيرُ مبرَّر، كما أنّ عدم التصدي له تحت عنوان إمرار الموازنة أو غيرها غيرُ مبرَّر أيضاً لأنّ الانعاكسات السلبية لا تطاول طرفاً بعينه، بل تنعكس على الجميع والعهد في الطليعة، وبالتالي لا يوجد طرف في حاجة فيها أكثر الى الآخر، إنما شراكة فعلية يكفي خروج أحد أطرافها لتسقط التسوية.

وإذا كان من الصعوبة في مكان أن يعيد باسيل النظر في أسلوبه لاعتبارين أساسيّين، أولهما حاجته الى المشروعية التي تتطلب المواجهات المستمرة، وثانيهما طبيعة تكوينه السياسي حيث إنّ الطبع يتغلّب على التطبّع، إلّا أنّ هذا الأسلوب الذي يصطدم عمداً بالجميع لم يعد مقبولاً وأصبحت القوى السياسية تتعامل معه من منطلق أنّ فترة السماح انتهت وأنّ الرطل سيُردّ عليه «برطل ووقيّة» كما هو حاصل مع «المستقبل» و»القوات اللبنانية»، ولكن في كل هذا المشهد السياسي أين يقف «حزب الله» من هذا الاشتباك المتواصل؟ وهل هو مستفيد من مواجهة باسيل لخصميه «القوات» و»المستقبل»؟ وهل يشجّع باسيل ضمناً لا علناً على هذه المواجهة؟

إنّ أولوية «حزب الله» في المرحلة الحالية هي تجاوز قطوع العاصفة الأميركية وما ستؤول إليه العقوبات على طهران، وكيف يمكن أن تتطوّر الأمور على هذا المستوى، لأنّ مصير سلاحه ودوره الإقليمي سيتحدّدان وفقاً لمؤدّيات شدّ الحبال الأميركي-الإيراني، وبالتالي يفضِّل في خضم الصورة الكبرى استمرار التهدئة والتبريد في لبنان تجنّباً لسقوط التسوية وإحياء الاشتباك السابق حول سلاحه، بما يؤدي إلى انضمام لبنان إلى الساحات الساخنة وتطويقه أميركياً من الخارج ولبنانياً من الداخل وبما يشبه حقبة عامي 2004 و2005.

وإذا كان «حزب الله» أبدى عدم ارتياحه إلى العلاقة بين الحريري وباسيل في ظل شعوره بوجود اتفاق ضمني وقوي بينهما، إلّا أنه في الوقت نفسه لا يريد إيقاظ المارد السُنّي في لحظة تأجّج إقليمية وتعبئة سنية - شيعية سعى أساساً إلى الإتفاق مع الحريري من أجل تبريد الساحة السنية من خلال عودة «المستقبل» إلى رئاسة الحكومة عن طريق الرئيس تمام سلام، وبالتالي لا يريد إعادة تسخين الساحة السنية لأنّ المواجهة الفعلية ربطاً بالوضع الإقليمي ستكون سنية - شيعية وليس مارونية - سنية، أو قد تستغلّ التعبئة لإشعال مواجهة معه يتجنّبها في هذا التوقيت.

فباسيل، بالنسبة إلى «حزب الله»، أخطأ مرّتين: المرة الأولى في ذهابه بعيداً في العلاقة التحالفية مع الحريري الذي يريده الحزب في السلطة ولكن ضعيف لتقطيع المرحلة الإقليمية، والمرة الثانية في تعبئة الساحة السنية وتوحيدها، فيما عمل الحزب المستحيل لقيام معارضة سنية ضد «المستقبل» يختفي أثرها في مواجهات طائفية ومذهبية من هذا النوع.

وفي الخلاصة بات «حزب الله» يرى في أداء باسيل ضرراً مزدوجاً: ضرب الاستقرار والانتظام والإطاحة بـ»الستاتيكو» القائم الذي يهدّد الحزب بالدرجة الأولى في مرحلة تحوّلات كبرى بفعل دور غير متوازن وغير مدروس واستطراداً فوضوي، واستنهاض الحالة السنية في مرحلة اشتباك سعودية -إيرانية تختلف عن المراحل السابقة ربطاً بالتوجّه الأميركي، وفي الحالتين جرّه إلى مواجهة في توقيت لا يصبّ في مصلحته ولا يريده.