يُشبَّه الاتقان السياسي بفن الحياكة. المثل الأبرز هنا هو توصيف سياسة إيران بـ"حياكة السجاد"، تأكيداً على الصبر والاتقان والمثابرة حتى انتهاء السجادة ورسومها وتطريزاتها. في لبنان، يتقن الرئيس فؤاد السنيورة هذا الفن أيضاً، فيبدو في هدوئه، وخفوت صوته قليلاً، ونظرته الثاقبة وبرودة أعصابه الناجمة عن صبر طويل، متقناً لفنّ "سدّ الثقوب"، أو بمعنى آخر، فنّ حياكة الكانفا (CANVAS)، وهي عبارة عن شبكة مثقوبة تحتاج لمن يحيكها كي تظهر صورتها جلّية وواضحة. قد تكون حياكة الكانفا أسهل من حياكة السجاد، باعتبار أن الرسمة موجودة على الشبكة، وهي لا تحتاج لغير سدّ الثقوب. لكن مقصد التشبيه هنا، لا يهدف إلى استسهال مهمّة السنيورة أو التقليل من أهميتها. إنما للإستدلال على أن الرجل، لا يتحرك إلا عندما تكثر الثقوب والندوب، فيسرع لسدادها.

"أنام ملء جفوني.."

لا يهدأ فؤاد السنيورة وإن لم يرد لحراكه أن يلقى الضجيج. فضجيج حوافر الخيل بالنسبة إليه حاجة سياسية في لحظة المعركة، وهو المهجوس بتاريخ العرب وأدبهم. بالتأكيد لا تفارقه واقعة خديعة خالد بن الوليد، في إحدى معاركه العسكرية التي كاد أن يهزم فيها، فأرسل فرقة من الخيالة لديه إلى مدى بعيد وأمرها بإستمرار التحرك، وما أن رأى أعداؤه الغبار المتطاير من حوافرها حتّى ظنّوا أن المدد قد وصل، فطلبوا إبرام اتفاق، ما حجب عن خالد خسارة المعركة، وهو القائد الذي لم يخسر حرباً في حياته.

السنيورة من طينة لا تأبه مراكمة المكتسبات على حساب خسارة الذات. محطّات عديدة أبرزت هذه الطينة، ففي حرب تموز 2006، كان رئيس الحكومة آنذاك والذي وصفه الرئيس نبيه برّي بأنه رئيس حكومة المقاومة السياسية، يعاند صقور الأميركيين كوندوليزا رايس وجيفري فيلتمان، ويرفض التنازل. حتى وصفه فيلتمان بأنه حريص على حزب الله أكثر من حرص الحزب على نفسه. وهذه شهادة للتاريخ بحق هذا الرجل، الذي قيل الكثير فيه، وشنّت أعتى الحملات بحقه، لكنه لا يتوانى عن ترديد بيت أبو الطيب المتنبي: "أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرّاها ويختصم". ولذلك، لم يرد لغبار الحوافر أو ضجيج المعارك أن يسيطر على غايته. وعلى الرغم من شراسة الحملات بقي على موقفه محاصراً في السراي.. مقبل غير مدبر. وهو الذي أوصل رسالة واضحة إلى حزب الله أثناء حصار السراي وصولاً إلى غزوة 7 أيار واجتياح بيروت قائلاً: "قولوا للسيد حسن نصر الله، فؤاد السنيورة يعلك المياه".

تأسيس الحلقة 

يوم تبنّي الرئيس سعد الحريري لترشيح الرئيس ميشال عون لرئاسة الجمهورية، كان السنيورة حاضراً في بيت الوسط، أعلن موقفه صراحة في اعتراضه على التسوية، وأعلن على الملأ أنه لن ينتخب عون. كان الرجل يستشرف ما هو آت، ويخشى من أن تكون الخطوة على حساب اتفاق الطائف، ولصالح استعادة صلاحيات رئاسية سابقة عليه. وهذا ما آلت إليه الأحوال فيما بعد. دفع الرجل ثمن موقفه من كيسه، إبعاداً وتطويقاً. لكنه لا يتراجع، ولا يتوانى، هو الضاحك دوماً قائلاً: "وضعت كل النجوم على كتفي" ولم أعد محتاجاً إلى منصب أو إلى موقع. لكنه لا يتراجع لحظة التهديد.

استعاد السنيورة حراكه السياسي بقوة، في أثناء مشاورات تشكيل الحكومة، وجد أن ثمة انتقاصاً لصلاحيات الرئيس المكلف، لم يلجأ حينها إلى إرتجالية، بل ذهب إلى "إنشاء" مؤسسة جديدة، أطلق عليها اسم "حلقة رؤساء الحكومات السابقين"، واكتسبت الحلقة صفة معنوية تعقد إجتماعات وتصدر بيانات، تضع الإصبع على الجرح، وترفع السقف لحظة لا يكون رئيس الحكومة سعد الحريري قادراً على المواجهة، أو لا يريد التصادم.

إنها مؤسسة جديدة أرسى دعائمها فؤاد السنيورة، لها عنوانان رئيسيان، عدم التنازل عن صلاحيات رئيس الحكومة ورفض الإعتداء عليها، والحفاظ على اتفاق الطائف. تحرّك الرجل في إرسائها وتكريسها مرجعية، إثر مشاهدته لحجم الثقوب التي تعضف بالمظلّة، فسارع إلى سدّها على طريقته في "حياكة الكانفا".

دعم الحريري وضبطه 

ميزة الرجل أنه يعرف متى يُقدم، وكيف يُقدم. فهو الحريص على أن لسعد الحريري رمزية لا يمكن لأحد تجاوزها. اتصل بتمام سلام، ونجيب ميقاتي، قائلاً: "موقع رئاسة الحكومة من مسؤوليتنا، وعلينا مساندة الحريري والوقوف على يمينه، وخوض المعارك عندما لا يكون قادراً على ذلك". هو لا يريد الخروج من عباءة إبن رفيق الحريري. فكان تحركه في فترة تشكيل الحكومة، واستمر خلال التحضير للانتخابات الفرعية في طرابلس، فكانت له اليد الطولى في تجميع قوى المستقبل ولمّ شمله. والآن يتحرّك، على إثر التوتر السياسي مارونياً وسنياً، كما يتحرك في مجال لا يريد الحريري أن يبادر إليه، وهو الردّ على موقف الأمين العام لحزب الله الهجومي إزاء السعودية، وإعلانه الاستعداد لإنشاء مصانع للصواريخ، واعتباره موقف الحريري في قمم مكة لا يعبر عن الموقف اللبناني الرسمي.

يكمّل السنيورة صورة المشهد، يحيك سدّ الثقوب ثقباً بعد ثقب، عند كل محطة ومفصل، ميزة ما أقدم عليه، انه يتوزع على نقطتين، دعم الحريري وعدم الإنقلاب عليه، وتشكيل عامل ضغط معنوي يمنع الحريري من التمادي في تقديم التنازلات.