يفترض أن ندرك أن إسرائيل قادرة على حل مشكلاتها بطريقة تزيدها قوة، بفضل نظامها السياسي القائم على تداول السلطة.
 

بحسب بعض المحللين، الذين يفسرون الوقائع بعقلياتهم الرغبوية والعاطفية أو حسب إدراكاتهم القاصرة، فإن ما يجري في إسرائيل، من انتخابات مبكّرة، وإعادة انتخابات، ومن تفكّك ائتلاف حكومي، أو عدم القدرة على تشكيل حكومة، على ما جرى مؤخرا، هو دلالة على تخبط أو على أزمة معششة في النظام السياسي الإسرائيلي، بل إن البعض يذهب إلى اعتبار ذلك من دلالات يوم “القيامة” بالنسبة لإسرائيل، أو دلالات اقتراب نهايتها.

وفي الواقع فإن مثل هذه التحليلات دلالة على قصور في معرفة إسرائيل، سيما بخصوص تحديد نقاط قوتها ونقاط ضعفها، ناهيك أنها بمثابة دلالة على سذاجة معششة في أذهان البعض من السياسيين والمحللين، الذين يتعامون عن مكامن تخلف وضعف النظام السياسي العربي في هذا المجال بالذات، أي في مجال التداول على السلطة، وعلى الاحتكام في الصراع السياسي للوسائل الديمقراطية، وكأن ذلك هو مدعاة مباهاة أو تميز لنا إزاء إسرائيل.

ليس القصد من ذلك نفي وجود أزمات سياسية أو بنيوية في إسرائيل، أو أنها استثناء بين مجمل الأنظمة السياسية في العالم، بل القصد عكس ذلك، أي الحث على وضع تلك الأزمات، والنظر إليها في سياقها السياسي، وترشيد النظرة إلى إسرائيل، بما في ذلك لحراكها ولخياراتها السياسية، كما لنقاط قوتها ونقاط ضعفها.

في هذا الإطار، يمكن القول إن إخفاق بنيامين نتنياهو، زعيم تكتل ليكود، في تشكيل ائتلاف حكومي، والدعوة إلى انتخابات ثانية، بعد انتخابات جرت يوم 9 أبريل الماضي، هو تعبير عن أزمة سياسية في إسرائيل وهذا أمر حقيقي، لكنها ليست من نوع الأزمات العضوية.

في المقابل يفترض أن ندرك أن إسرائيل قادرة على حل مشكلاتها بطريقة تزيدها قوة، بفضل نظامها السياسي القائم على تداول السلطة، والفصل بين السلطات، والاحتكام للانتخابات، علما أنها نظمت منذ قيامها 21 دورة انتخابية للكنيست، وهذه مسألة على غاية في الأهمية، بل إنها الأساس في تحديد قوة إسرائيل وتميزها في هذه المنطقة من العالم، ما يمنحها قوة مضافة علاوة على قوتها وتميزها في مجالات التطور العلمي والتكنولوجي، والقوة العسكرية والاقتصادية، وعلاقاتها المتميزة مع القوى المهيمنة في العالم.

أما في ما يخص الأزمة الحالية، وإخفاق نتنياهو في تشكيل ائتلاف حكومي، من كنيست هو الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، فيعود إلى رفض أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، المشاركة في ذلك الائتلاف مع الشروط التي وضعها بشأن شمول المتدينين في الخدمة في الجيش الإسرائيلي، والتي لا يقبلها الحزبان المتدينان شاس (لليهود الشرقيين) وله ثمانية مقاعد، ويهوديت هاتوراه (لليهود الغربيين) وله سبعة مقاعد، اللذان يحصلان على موازنات كبيرة وعلى سن تشريعات دينية، دون أي مقابل، علما أن حزب ليبرمان له خمسة مقاعد فقط في الكنيست.

طبعا ثمة بعد شخصي في الخلاف بين ليبرمان ونتنياهو على المكانة والزعامة، إذ أن الأول كان السبب الأساسي وراء تبكير الانتخابات التي جرت في أبريل الماضي، كما ثمة خصوصية في النظام السياسي الإسرائيلي تتيح للأحزاب الصغيرة وضع فيتو على الأحزاب الكبيرة، أو فرض رأيها في السياسة الإسرائيلية بشكل يزيد كثيرا عن حجمها، لكن البعض يرى في ذلك دليل قوة وعافية وترسيخا للديمقراطية في إسرائيل.

ما جرى بخصوص عدم قدرة نتنياهو تشكيل حكومة، يتجاوز هذين التفسيرين، إذ أن ما حصل، دلالة على انبعاث أحد التناقضات في إسرائيل منذ قيامها بين كونها دولة دينية أو دولة علمانية. في هذا الإطار فإن إسرائيل، بسبب طبيعة نظامها السياسي، وحرصها على أن تحافظ على الإجماع الداخلي، وتلويحها دائما بالخطر الوجودي الذي يتهددها من الخارج، استطاعت إخفاء التناقضات التي نشأت معها منذ قيامها، كالتناقض بين التيارات الدينية والعلمانية، أو التناقض بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، أو التناقض بين الفقراء والأغنياء، وبين اليمين واليسار، وبين الهويتين اليهودية التي تعني أنها دولة كل اليهود في العالم، والإسرائيلية التي تعني أنها دولة اليهود الإسرائيليين، وكذا التناقضين الناشئين بعد حرب 1967، بين اليهود المستوطنين في الأراضي المحتلة واليهود الإسرائيليين في مناطق 1948، وبين المهاجرين القدم والمهاجرين الجدد من الاتحاد السوفييتي السابق في عقد التسعينات. وكل ذلك يفيد بأن إسرائيل هي خليط كبير ومتباين ومنقسم على ذاته ولا يوحده إلا الخطر الخارجي، أو مزاعم الخطر الخارجي وطبيعة النظام السياسي، وهو ما يميز إسرائيل ويضفي عليها عامل قوة إزاء محيطها.

قصارى القول، فمن بين كل تلك التناقضات ظل التناقض بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية هو الأكثر اشتعالا، بسبب طبيعة إسرائيل التي تعتبر نفسها دولة يهودية، وأنها قامت لتنفيذ مشيئة إلهية، ما يفيد أن قانون إسرائيل كدولة يهودية لا ينعكس سلبا على الشعب الفلسطيني فقط، وإنما ينعكس سلبا على إسرائيل ذاتها وعلى إجماعاتها، لكن المشكلة أن الوضع العربي أو الفلسطيني لا يشتغل بما يمكنه من استثمار تلك التناقضات.