أغلب الظن أن قناة «العربية» حاضرة في مكاتب كبار المسؤولين الإيرانيين، ولو من باب «اعرف عدوك». والحدث استثنائي، ولا بدَّ من متابعته. ثلاث قمم متلاحقة في مكة المكرمة، وفي العشر الأواخر من شهر رمضان. قمتان طارئتان، خليجية وعربية، تتبعهما قمة إسلامية دورية. لا تغيب عن أي مُتابع رمزية المكان، وما يعنيه في وجدان عموم المسلمين. ولا تغيب عن البال خصوصية اللحظة الخليجية والإقليمية، التي تنعقد فيها سلسلة القمم. فالمنطقة تشهد أزمة كبرى، تلتقي فيها الضغوط الاقتصادية والسياسية بالإجراءات العسكرية التي استدعتها اعتداءات، يكشف حديد صواريخها وقذائفها هوية مرسلها الفعلي، ولو تطوع الوكيل لتوقيعها نيابة عن الأصيل.
طبيعي إذاً أن تشغل سلسلة القمم اهتمام مكاتب المرشد والرئيس وقائد «فيلق القدس». فالسلوك الإيراني هو السبب الأول في استدعاء القمتين الطارئتين، وظلّه حاضر بقوة في خلفية التئام القمة الثالثة. ولعل مجرد انعقاد القمم الثلاث يبعث برسالة واضحة، مفادها أن الأزمة الحالية في الخليج لا يمكن اعتبارها مجرد مبارزة أميركية - إيرانية، فبداية المشكلة كانت ولا تزال تدهور العلاقات بين إيران وجيرانها في الخليج. هذا لا يلغي بلا شك أهمية الخلاف الإيراني - الأميركي، لكنه يُذكر بأنه ليس البعد الوحيد في الأزمة. وقد سعت طهران دائماً إلى الإيحاء أن مشكلتها مع الدول الخليجية هي من نتائج خلافها مع «الشيطان الأكبر»، لكن ذلك غير صحيح. فعلى مدى 4 عقود أحبط تمسك إيران بقاموس تصدير الثورة ونهج التدخلات كل فرص تطبيع العلاقات مع الدول الخليجية، وفي مقدمها السعودية.
طبيعي أن يتابع الجنرال قاسم سليماني المشاهد الوافدة من مكة. مجلس التعاون الخليجي، الذي ولد في مطلع الثمانينات على دوي الحرب العراقية - الإيرانية، لا يزال محتفظاً بوحدته، على رغم محاولات التطويق والزعزعة التي تستهدفه، وعلى رغم بعض الأزمات التي تنشب داخله حين تضطرب البوصلة لدى أحد أعضائه. جديد القمة الحالية هو اعتماد الوضوح الكامل في الاتهام وإعلان الموقف. ذلك أن الوضع لم يعد يسمح بالعبارات العمومية، ولا بالمواقف الرمادية. وإذا كان بديهياً أن يُدين بيان قمة التعاون الاعتداءات الحوثية على السعودية والعمليات التخريبية في المياه الإقليمية لدولة الإمارات، فإن الرسالة إلى إيران كانت بالغة الصراحة والوضوح.
حمّل البيان إيران مسؤولية سياسة زعزعة الاستقرار في المنطقة وتسليح الميليشيات و«تغذية النزاعات الطائفية والمذهبية»، وطالب المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته حيال سلوك إيران الإقليمي وطموحاتها النووية والباليستية. وأعلنت القمة بوضوح تأييدها «الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران». وفي الوقت نفسه، أكد البيان تماسك المجلس ومنعته ووحدة الصفّ بين أعضائه «لمواجهة هذه التهديدات». وهذا ينسجم مع ما جاء في الكلمة الافتتاحية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي شدَّد على أهمية «اتخاذ موقف رادع وحازم لمواجهة أنشطة إيران التخريبية».
يتابع الجنرال سليماني توافد القادة العرب إلى قاعة القمة. لم تبدل الاختراقات الأربعة التي حقّقتها إيران على الأرض العربية مشاعر الأكثرية الساحقة من العرب. اليمن حاضر عبر سلطته الشرعية المعترف بها عربياً ودولياً. ولبنان ممثل عبر رئيس وزرائه سعد الحريري. وسوريا غائبة. والعراق ممثل عبر رئيسه برهم صالح، الذي لم يكن مستغرباً أن يسجل تحفظه على البيان، في ضوء موازين القوى الميدانية في بلاده.
بيان القمة العربية لم يكن أقل وضوحاً من القمة الخليجية. فقد أكد تكاتف الدول العربية «في وجه التدخلات الإيرانية في شؤونها الداخلية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بهدف زعزعة أمنها واستقرارها». ودعا البيان المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف حازم من محاولات إيران زعزعة استقرار جيرانها، وتهديد أمن الطاقة والممرات الملاحية، مباشرة أو عبر وكلائها. وأكد حقّ السعودية «في الدفاع عن أراضيها، وفق ميثاق الأمم المتحدة، ومساندتها في الإجراءات التي تتخذها ضد تلك الاعتداءات في إطار الشرعية الدولية»، ثم جاء «إعلان مكة» في ختام القمة الإسلامية، ليدين «الاعتداءات الإرهابية التي تعرضت لها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة».
ملف آخر استوقف سليماني بالتأكيد، وهو تمسك السعودية والمشاركين في قمم مكة بالثوابت المعروفة في التعامل مع الشأن الفلسطيني، وأهمها التشديد على أن أي سلام عادل لا بدَّ من أن يحفظ هوية القدس وحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، وفقاً لما جاء في مبادرة السلام العربية. وهذا الأمر بالغ الأهمية، خصوصاً بعد ما رُوّج عما سمي «صفقة القرن» التي ترعاها إدارة دونالد ترمب.
ماذا يمكن أن يستنتج الجنرال سليماني من المشاهد المتلاحقة الوافدة من مكة؟ هل يستنتج أن بلاده تحتاج فعلاً إلى هدنة طويلة مع «الشيطان الأكبر» ليتسنى لها هضم المكاسب التي حقّقتها في الإقليم، خصوصاً بعدما أظهرت التطورات في اليمن إصرار الجانب السعودي على عدم التسليم بسياسة التطويق وتحريك الوكلاء؟ وهل يقود هذا الاستنتاج إلى تحقيق ما تهمس به مصادر دبلوماسية، ومفاده أن طهران ستبلغ رئيس الوزراء الياباني حين يزورها هذا الشهر أنها مستعدة لإبداء شيء من المرونة في الملفين النووي والباليستي، في محاولة منها لإنهاء العقوبات الموجعة المفروضة عليها حالياً، وأن هذه الرسالة ستنقل إلى بعض المعنيين المشاركين في قمة مجموعة العشرين في أوساكا في الأسبوع الأخير من الشهر الحالي؟
هل يتوقف سليماني عند ما أكدته مشاهد مكة من ثقل السعودية الخليجي والعربي والإسلامي، وهو ثقل سياسي واقتصادي إقليمي ودولي يتضاعف مع ورشة الإصلاح والانفتاح التي يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان؟ هل يقتنع سليماني أن السعودية قدر جغرافي لا يمكن تفاديه، وأن الحل هو مقابلة يدها الممدودة بتبريد قاموس الثورة لمصلحة حسن الجوار وعدم التدخل والمصالح المتبادلة؟ هل يتذكر أن إيران أبرمت هدنة مع باراك أوباما، وتناست جيرانها، ثم اكتشفت أن الرئيس الأميركي يتغير، وأن سياسة واشنطن ما كانت لتتغير إلى هذا الحد لو كانت علاقات إيران طبيعية مع جيرانها؟
بلغت الثورة الإيرانية عامها الأربعين. يستحق الإيرانيون أنفسهم وقفة مراجعة. لا تستطيع إيران أن تلعب إلى ما لا نهاية دور مفاعل التوتر قرب الآبار والمضائق. لقد عبّرت القمم الثلاث عن توق المشاركين فيها إلى التقاط الأنفاس للتفرغ للتنمية واللحاق بعصر صارت الثورات العلمية والتكنولوجية جزءاً من يومياته. أغلب الظن أن الشعب الإيراني لا يريد العيش إلى ما لا نهاية على صفيح ساخن.