لم تؤخذ قمم مكة الثلاث، الخليجية ثم العربية ثم الاسلامية، على محمل الجد. فهي كانت أشبه بسهرات رمضانية، إنعقدت ما بين الافطار والإمساك، في الاسبوع الاخير من شهر الصوم، وبدا الجمع في المدينة المقدسة، بدعوة من الملك سلمان بن عبد العزيز، هدفاً بحد ذاته، يحاكي الحشد الذي تستضيفه المملكة على نفقتها في موسم الحج من كل عام، لترسيخ ولايتها الاسلامية، وتأسيس زعامتها السياسية.

كل الدروب تقود الى مكة. هذا شأن ثابتٌ ومسلمٌ به. لكن تحويلها الى قبلة سياسية كان ولا يزال يخضع للجدل، الذي تثيره المملكة نفسها، وتنفيه عن سواها من الممالك والامارات والجمهوريات والمنظمات والاحزاب، الذين يستخدمون الاسلام ونصوصه وشعائره وطقوسه وأماكنه المقدسة، في معاركهم السياسية التي يصل بعضها الى التكفير المتبادل وحدوده المعروفة.


للسعودية أن تتباهى بأنها الدولة الوحيدة في العالم التي تستطيع تنظيم تلك القمم الثلاث الجامعة لكل ما هو خليجي وعربي ومسلم، في مكان رمزي، وفي وقت قياسي، وفي وضع حرج، على المستويات الثلاثة. ولعل هذا هو الدافع الأهم، وربما الاوحد، التي يفترض ان يعكس ويحفظ مرجعية المملكة ومكانتها الخاصة، في ظل فراغ بقية المرجعيات، أو إضطرابها، او تحدي شرعيتها.


وبدلا من أن تخلف القمم الثلاث الاطمئنان، تركت الانطباع بأن المملكة في موقف صعب. هي لا تطلب إعترافاً بمرجعيتها، لكنها تنشد من أشقائها الخليجيين، وبينهم القطريون المحاصرون، دعماً، وتطلب من إخوانها العرب مؤازرة، وتريد من شركائها المسلمين إستجابة.. من دون أن تحدد بدقة القرارات الطارئة التي تتوقعها. مجرد الدعوة العاجلة الى القمم الثلاث أثارت على الفور، القلق من أن الحرب باتت بالفعل على الابواب. لكن عندما سدت تلك الابواب، على الاقل في الظرف الراهن، أفرغ الحشد الذي إستضافته مكة، من أهم محتوياته.


بعبارة أخرى، كان يمكن لذلك الحشد أن يكون مبرراً ومفهوماً لو كان المطلوب من القمم الثلاث ان توفر مظلة خليجية وعربية وإسلامية للحرب على إيران، على غرار ما جرى في جميع الحروب السابقة التي شهدتها منطقة الخليج العربي في الماضي وجرى التمهيد لها بقمم مشابهة، أصدرت قرارات تفويض للقوات الاميركية خاصة والحليفة عامة بإطلاق الموجة الاولى من الغارات الجوية والصاروخية..


حصل العكس، وبدا أن القمم الثلاث تساهم في إستبعاد الحرب وإنكار التفكير او التخطيط لها، وهو ما يعني إنكفاء السعودية تحديداً الى موقع الدفاع ، بعد تلقيها الموجة الاولى من الاعتداءات الايرانية على قطاعها النفطي، لا سيما في الرياض وينبع، من دون ان ترد، ومن دون ان تتلقى من حلفائها الاميركيين خاصة، سوى البيانات والتصريحات المتناقضة التي أجازت اللجوء السعودي الى ذلك المهرجان السياسي في مكة.. والذي قرأه بعض الخبثاء بإعتباره موجهاً ضد الرئيس دونالد ترامب، أكثر مما كان موجهاً ضد المرشد الايراني علي خامنئي.


إلتزمت القمم الثلاث بموقع الدفاع، والتحذير من خطر إيران ليس فقط على النفط الخليجي بل على الاقتصاد العالمي والسلم الدولي، حسبما جاء في البيانات الختامية، وناشدت المجتمع الدولي التدخل لمنع الاعتداءات الايرانية..وهو ما يعادل التسليم ضمناً بأن السعودية وحلفائها الخليجيين سيظلون عرضة لتلك الاعتداءات، التي لا شك أنها ستتواصل وتتصاعد، في ضوء اي قراءة دقيقة للموقف الاميركي الذي لا يحرّم سوى الهجوم المباشر على القواعد والقواعد الاميركية. وكل ما عداها مباح ومستباح.


لا شك أن القيادة الايرانية ترقص طرباً على إيقاع تلك القمم الثلاث، التي أعطتها الضوء الاخضر الخليجي والعربي والاسلامي للإستمرار في نهجها الذي يحيد الاميركيين ويستهدف حلفاءها الذين أثبتوا مرة أخرى في مكة أنهم مهرة في إشعال الحروب والازمات، وعجزة عن كسب أو إخماد أي منها.