من يراهن على بقايا عقل في رأس النظام الإيراني لتجنب الحرب والصراع عليه أن يطالب بجرد حساب للدمار الذي تسبب فيه مشروع الملالي في المنطقة.
 

الأربعون سنة الماضية من تاريخ العراق، بإمكانها أن توضع على طاولة أي رؤية لمستقبل دول المنطقة وفي مقدمتها الدول العربية من أجل إعادة التقييم ودراسة منطق الأحداث بعيدا عن المواقف أو الآراء المؤقتة المرتبطة بضغط المحن والأوقات العصيبة التي مر بها العراق.

من يضع العقود الأربعة في ميزان السياسة يكتشف حجم ما تركته ثورة الخميني من آثار سلبية على العراق الذي استبشر بالثورة كبداية انفراج من معاناة استعلاء إمبراطورية الشاه محمد رضا بهلوي، وتهديداتها المعلنة والمبطنة للعراق رغم العلاقات الودية على كافة الأصعدة بين الشعبين.

ولاية الفقيه منذ بدايتها كانت على يقين من أن أي نظام سياسي في العراق لا يمانع من إقامة أطيب الصلات بين الفقهاء من المذهب الواحد في الدولتين أو بين الزوار من الجهتين، وهو ما كان يحصل دون حساسية حتى في أوقات الأزمات، ويتعدى الأمر موضوع الطائفة الواحدة، فالمواطنون كانوا يعتبرون الزيارات بعضا من مباهج السياحة إضافة إلى بعدها النفسي والديني الذي ساهم في استقرار السلام والرخاء وحتى التصاهر أو توفر فرص العمل، وذلك رائج في دول الخليج العربي وتراه في أعداد الإيرانيين وتمددهم في شبكة مصالح توسعت بالتقادم إلى نفوذ عبر حقوق المواطنة بما يعطي الانطباع عن مدى روح التسامح والوئام الإنساني المطبوعة في نفس الإنسان العربي. ما الذي تغير؟ الجواب لا تخطئه العين ولا الذاكرة القريبة لجيل عاصر الأربعين سنة الماضية من عمر الثورة الإيرانية أو بعضها.

ولمن لا يدرك مخاطر البعد الإرهابي لولاية الفقيه عليه مطالعة ملحق الثورة الإيرانية وصادراتها في العراق وكيف استثمرت في الحرب والمواجهة المباشرة أو بالمناورة واستغلال الوقائع وخسائر الاقتصاد، لتدفع بالعراق إلى الهاوية عدة مرات تعويضا عن عدم قدرتها على احتلاله عسكريا إلى أن سلمته إلى الولايات المتحدة قبل الغزو في مبررات 11 سبتمبر 2001.

وكذلك بالخدمة المشهودة لعملائها لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والتي قابلتها الولايات المتحدة برد الجميل عندما سلمتهم السلطة على أرض جرداء من كيان الدولة العراقية القائم منذ بداية عشرينات القرن الماضي، ثم سلمتهم العراق كاملا بأمراضه المستجدة وانقساماته الطائفية المدرجة على جدول أعمال نظام الملالي الذي رأت فيه أميركا والحاكم المدني بول بريمر وإدارة الرئيس السابق باراك أوباما مدخلا لتبادل المنفعة والأدوار في تقرير السياسات داخل الولايات المتحدة أو إيران على حساب العراق ووحدة شعبه ومصيره.

مستشار الأمن الوطني في حكومة العراق فالح الفياض، وهو الذي يترأس هيئة الحشد الشعبي، يقول بكل قناعة إن العراق ليس بإمكانه أن يلعب دور الوسيط للتهدئة بين إيران وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

إنه اعتراف بغياب العراق كدولة مستقلة وذات سيادة على أراضيها وقرارها، بمعنى أن العراق بعد الاحتلال تحول مناصفة بين الولايات المتحدة وإيران.

والمناصفة لا تتعلق حتى بما يراه العراقيون من ميول لهذا الطرف أو ذاك نتيجة لرص الاستهداف والفقر والإرهاب، فالأمر يتصل بمتطلبات المشاريع الدولية والإقليمية وما تفرضه من انقسامات لا يمكن معها تصور تغول الميليشيات المنضوية تحت قانون هيئة الحشد وامتيازاته السياسية والتسليحية والاقتصادية، بعض من دوافع الوطنية العراقية للنهوض أو مقاومة التواجد الأميركي في العراق.

خطابات زعماء الحشد ومراجعاتهم لأصداء إطلاق الكاتيوشا على السفارة الأميركية بعد التحذير الذي استدعى الحضور المفاجئ لوزير الخارجية مايك بومبيو، وإلقائهم التبعات على جهة ثالثة وترويجهم لالتزام الحشد بقوانين الدولة وسياساتها في الحياد، وبفتوى المرجعية المذهبية في النأي عن أي صراع بين أميركا وإيران، لن تقرأ إلا بكونها محاولة للتستر بفتنة متجددة تقوّض أي ترميم لتداعيات زلزال الاحتلال وارتداداته الإيرانية.

الطرف الثالث تطلب حضور محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني مسرعا إلى العراق لاغتنام إطلاق الكاتيوشا وتحويلها إلى توصيلة حوار دبلوماسي مع الولايات المتحدة، وإلى تهويمة من التناقضات وتبادل الاتهامات وتشتيت الأزمة على طريقة الضربات الكيميائية في سوريا، خاصة ما يمكن أن تطرحه من مستجدات بعد إشارة مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتن لمسؤولية إيران عن الأعمال الإرهابية المتعددة بعد التحذير الأميركي وبالذات خرق الكاتيوشا للخط الأحمر الذي رسمته زيارة بومبيو الطارئة.

لذلك من يراهن على بقايا عقل في رأس النظام الإيراني لتجنب الحرب والصراع عليه أن يطالب بجرد حساب للدمار الذي تسبب فيه مشروع الملالي في المنطقة.

إنه رهان على المستحيل بعد 40 سنة قضاها النظام في التخطيط لتنفيذ طموحات إمبراطورية الملالي العميقة والخطيرة على امتداد أمة العرب.