الخطاب السائد في طهران عن الهزيمة التي تنتظر الولايات المتحدة من الآن حتى 2050، يدلّ على أن الحسابات المبنية على الغيبية يمكن أن تؤدي إلى اعتماد الخيارات الأسوأ.
 

أتى انعقاد القمم الخليجية والعربية والإسلامية في مكة المكرمة بمثابة نداء “الفرصة الأخيرة” لحماية السلام والأمن في الخليج والشرق الأوسط. وفي خضم التصعيد بين واشنطن وطهران رفضت القمتان الخليجية والعربية تدخلات إيران بالمنطقة وتهديدها للاستقرار.

وبالفعل يرزح كل الإقليم تحت وطأة ديناميكيات اختبار القوة بين الطرفين، والذي يدور حاليا بين استراتيجية الضغوط القصوى التي تتبعها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والردود الإيرانية المتراوحة بين الرسائل العسكرية والاقتراحات الدبلوماسية المزدوجة والملتبسة بغموضها غير البناء.

 سيكون موسم الصيف صعبا بسبب تأجج جذوة التوتر، ويستبعد أن يصل التصعيد إلى حد المواجهة العسكرية راهنا، إلا أن ارتسام مأزق عدم العودة إلى التفاوض يمكن أن يقود إلى اندلاع نزاع عسكري محدود، خاصة أنه من الصعب على ترامب التراجع بعد سنتين من الإجراءات القاسية بالرغم من بعض التغريدات والتصريحات التصالحية، علما أن مقارباته في السياسات الخارجية تقوم على أن المجابهة هي حجر الرحى وتستند إلى العقوبات والحرب التجارية والاستعراض العسكري.

بالنسبة للنظام الإيراني فالمشكلة معه مزمنة لأن إيران منذ أربعة عقود لم تعد تتصرف بوصفها دولة قومية، وإنما بوصفها “ثورة أيديولوجية” قبل أي اعتبار آخر. ومن هنا لا يعدّ الصراع الدائر صراعا تقليديا بين دولتين لأن الجانب الأيديولوجي موجود أيضا في حسابات واشنطن. وهكذا فإن اشتداد حملة الضغط الأميركية إلى حدها الأقصى يدفع بإيران إلى زاوية حرجة ويفتح الباب على مصراعيه لصراع مفتوح ينطوي على مخاطر جمة في منطقة استراتيجية وحيوية بالنسبة إلى إنتاج الطاقة ومرورها وتأمينها.

في هذا السياق يبدو أن الولايات المتحدة تعتقد أن عقوباتها القاسية وحملة الضجيج الصاخب الإعلامي والعسكري، ستقنع أو ستلزم الجانب الإيراني بالعودة إلى طاولة المفاوضات، ويقول مصدر أوروبي إن “التكتيك الأميركي بالإعلان عن حشد القوات العسكرية الأميركية في المنطقة (كما لو أنه ليس هناك العشرات من القواعد العسكرية الأميركية في 11 دولة تحيط بإيران)، ثم تمرير التسريبات الاستخبارية يدلّ على أن إدارة ترامب قصدت تضخيم المعلومات حول تحركاتها العسكرية، لكنها فشلت حتى الآن في تخويف إيران”.

متابعة مسلسل التصريحات الأميركية في الأسبوع الماضي عن كثب توضح تناسقا تكامليا لزيادة الضغط. بعد تصريح تهدئة أطلقه ترامب من طوكيو عن “إيران العظيمة” عاد بعد يومين ليتكلم عن “إيران الدولة الضعيفة المستعدة للتفاوض”، وهذا ينسجم مع استمرار تلويح مستشار الأمن القومي جون بولتون والمبعوث الخاص برايان هوك بتشديد العقوبات والرد العسكري على أي استفزاز أو اعتداء ضد المصالح الأميركية.

وما يدعم الخط المتشدد التصريح الأخير لنائب وزير الدفاع باتريك شناهان عن “عدائية إيران وعدم تغيير سلوكها التخريبي”. وأسفر تصعيد العقوبات الأميركية عن نتائج ملموسة في الشهر الأول إذ انخفضت صادرات إيران النفطية في مايو الماضي إلى 400 ألف برميل (الصادرات قبل العقوبات الأميركية وصل إلى مليوني ونصف المليون برميل) ويبدو أن الوضع سيزداد سوءا مع نهاية الإعفاءات واستبدال الصين صادراتها بنفط روسي.

 وخلافا لتفكير إيران الرغائبي وتمنيها التعويل على الترويكا الأوروبية (ألمانيا – فرنسا – المملكة المتحدة) في إتمام الآلية المالية للالتفاف على العقوبات الأميركية، يستنكف القطاع الخاص الأوروبي ويتردد صناع القرار ليس فقط بسبب التهديد الأميركي بعقوبات ضد أشخاص وكيانات معنية، لكن أيضا بسبب عدم إبداء طهران أي مرونة قي ملفي الصواريخ الباليستية والأزمات الإقليمية.

ودوما في الإطار الدولي، يشي إعلان بنيامين نتنياهو عن اجتماع أمني ثلاثي،آخر يونيو القادم، بين الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، عن تموضع روسي يبتعد عن إيران وتوجه لبلورة تفاهمات إقليمية مع واشنطن بتشجيع إسرائيلي. ولكن كل هذا الجهد الأميركي في مجالي الضغط الاقتصادي والسياسي والتهويل العسكري لا يعني نجاحا وشيكا لإدارة ترامب، إذ أن إيران تقرأ الوضع على نحو مغاير.

أولا وقبل كل شيء، لا تثق طهران بالإدارة الأميركية، من أجل العودة إلى المفاوضات. وهذا ما قاله صاحب القرار الأساسي فيها المرشد الأعلى علي خامنئي الذي رفض التفاوض خاصة على المقدرات العسكرية تحت ضغط استراتيجية العقوبات.

من هذا المنطلق يبدو وضع الثنائي روحاني/ ظريف على المحك إذ أن مناورات الانفتاح وأطروحة “معاهدة عدم الاعتداء مع دول الخليج” (المتأخرة جدا من ناحية التوقيت والتي تذكر بسوابق سلبية في الإقليم والعالم) لا تتمتع بالمصداقية ويمكن اعتبار تصريحات قادة الحرس الثوري الحربية وتهديداتهم تمثل الموقف الحقيقي خاصة إذا ربطناها باستهداف الملاحة في خليج عمان أو المنشآت النفطية السعودية وتحريك الأذرع العسكرية في العراق.

 مع بدايات التصعيد بين الجانبين كان الكثير من المتابعين يتوافقون على أن الحرب ليست في الأفق وأن المواجهة ليست حتمية لأن ترامب يدرك أن الحروب مُسيئة للأعمال الاقتصادية -ولمؤشر داو جونز- وهي نادرا ما تسير كما خُطط لها.

في المقابل، قد يفضل حكام إيران انتظار انتهاء الولاية الرئاسية الأولى لترامب واحتمال حلول رئيس ديمقراطي أكثر ليونة مكانه. هذا، أيضا، قد يكون من باب التمني، لكن إيران تعرف جيدا طبيعة تكلفة الحرب، كما تعي أن اللجوء إلى الحرب بالوكالة قد تثير انتقاما عسكريا أميركيا تجهد نفسها لتجنبه.

بيد أن هذه المؤشرات تراجعت بعد الثاني عشر من مايو الماضي إثر الاعتداء الذي تعرضت لها الملاحة الدولية قبالة سواحل الأمارات العربية المتحدة. ولذلك تغيرت قراءة الوضع بعد 12 مايو، وازدادت درجة الخطورة ولذا لا يمكن كبح جماح التصعيد من دون تنازل إيراني وربما الرجوع في دوائر “منظومة ولاية الفقيه” للتذكير باستراتيجية الإمام الحسن في المهادنة (في إشارة إلى اتفاق الإمام الحسن بن علي مع الخليفة معاوية بن أبي سفيان)، يمثل إيجاد مخرج لتبرير المرونة والعودة إلى التفاوض وترتيب صفقة مع إدارة ترامب.

لكن الخطاب السائد في طهران عن الهزيمة التي تنتظر الولايات المتحدة من الآن حتى 2050، يدلّ على أن الحسابات المبنية على الغيبية يمكن أن تؤدي إلى اعتماد الخيارات الأسوأ، وأن اعتماد المناورة واللغة الخشبية والخطاب المزدوج والأساليب الملتوية والرسائل التخريبية والتهديدات، ستزيد من الاحتدام مع واشنطن ودول الجوار.