فماذا بعد؟ ها هي أكبر وكالة تصنيف عالمية تعطي رأيها في الموازنة؟ فإلى متى سيستمر التلطي وراء الأوهام ووراء الأرقام النظرية؟
 

بعيداً عن المماحكات والمزايدات التي سيطرت على جلسات نقاش الموازنة، والمواقف السياسية التي أعلنت داخل مجلس الوزراء وخارجه، وتراجُع البعض عن طروحاتهم التي حرّكت الشارع وشلّت البلد، فقد سلكت الموازنة طريقها إلى لجنة الـمال والموازنة متأخّرة ستة اشهر عن موعدها القانوني، من دون قطع حساب.

فشعارات الرؤية الإقتصادية والتنموية التي رفعها الجميع عنواناً لطلاتهم الإعلامية، والإصلاحات التي كانوا يبشّرون بها، سقطت بمعظمها تـحت وطأة الإضرابات والمصالح الفئوية والحزبية والمزايدات الشعبوية الرخيصة، إذا كان بعض الأفرقاء لـم يجد فـي الموازنة سوى موازنة رواتب وخدمة دين عام وضرائب على الفقراء ومتوسّطي الدخل، وحسم مخصّصات ومكتسبات المتقاعديـن والموظفيـن في القطاع العام، ولم يلاحظ الضرائب التي زادت على البنوك وأصحاب الحسابات المصرفية والضرائب التصاعديّة بحسب شطور الدخل، والرسوم على الأملاك البحرية والمستوردات. 

وإذا كان الوزير غسان حاصباني يرى أنّ الـمسودة الأخيرة للموازنة لا ترقى إلى مستوى الإصلاحات البنيوية الـمطلوبة، وتـحفّظ عن الأرقام العامة فـي الموازنة ونسبة العجز. إضافة الى تحفظ وزراء القوات اللبنانية بعد الإعلان المفاجئ وفي اللحظات الأخيرة للجلسة عن إنخفاض التحويلات من وزارة الإتصالات 200 مليار ليـرة، وتخصيص 40 مليار ليرة لصندوق المهجّرين. والوزير جبران باسيل يرى أنّ الإصلاحات ليست كافية، ومن حقّنا أن نقول نريد أكثر.

إقرأ أيضًا: ما المطلوب من لبنان مقابل ترسيم الحدود؟!

ويتساءل منذ عشر سنوات وأنا أسمع في الحكومة دعوات إلى تأجيل الأمور، فمتى يؤخذ القرار لإنقاذ البلد؟ وحزب الله يجد أنّ الـمقاربات بعيدة من أن تجسّد الـموازنة رؤية إصلاحية مـتماسكة. ويقول السيد نصرالله أنّ هناك نقاطاً رفضناها ونرفضها، لأنها تمسّ بالفئات الفقيرة وبالشعب اللبناني عموماً وذوي الدخل المحدود، وفي المجلس النيابي نحن لن نلتزم الصمت الإعلامي الذي إلتزمنا به في الحكومة. والوزير أبو فاعور يقول لا يجوز أن نأخذ من المواطن ولا يُطال الـمعتدي على المال العام، هناك إجراءات تحتاج إلى إعادة نقاش كضريبة الدخل على المتقاعدين. وإذا لم نفعل كل هذا لن تكون الحكومة في موقع مقبول للرأي العام.

إذا كانت القوات والتيار والحزب والتقدّمي غير راضين عن الموازنة وغير مقتنعين بما تضمّنته من إصلاحات، فمَن بقي في الحكومة راضٍياً عن هذا الإنجاز سوى الرئيس سعد الحريري ووزير المال علي حسن خليل خليل مقتنع أنّ خفض عجز الموازنة إلى 7,59% من الناتج المحلي هو جيد وكافٍ في هذه المرحلة، ولكنّه يرفض زيادة 2% على بعض السلع المستوردة.

أمّا الحريري، فهو مقتنع أنّ ما تحقّق من إصلاحات هو أمر جيد. ويردّ على المشكّكين قائلاً: إنّ الرؤية الإقتصادية والإنمائية والإستثمارية موجودة في البيان الوزاري وفي مؤتمر سيدر وخطة ماكنزي، والتصحيح المالي. فكيف يمكن في ظلّ هذا التناقض في المواقف، وهذا التباعد في الرؤى الذهاب إلى المجلس النيابي بموازنة مُتحفَّظ عن أرقامها لدى غالبية الوزراء ونصف مقبولة ومفخخة بكلّ أنواع الألغام والمتفجّرات؟ إنّ التحدّي الأول الذي ستواجهه الحكومة هو كيف ستتمكّن من الإلتزام بنسبة العجز المنخفضة المُعلنة في مشروع الموازنة في المهلة الزمنية المتبقية حتى آخر السنة؟ 

أمّا التحدّي الثاني فهو كيف ستُلزم الوزارات ومؤسّـسات الدولة التقيّد بالخفض الذي لحظته الموازنة؟ فالتجارب السابقة لا تبشّر بالخير. وأكبر دليل، ما حصل في العام 2018، حيث وصلت نسبة عجز الموازنة إلى 11,4%، ونسبة الدين العام إلى الناتج المحلي فاقت الـ150%، أمّا نسبة النموّ فلم تصل إلى 1%. هناك أسباب عدة دفعت إلى هذا التراجع، وأهـمّها القرارات الشعبوية التـي أرهقت الـمالية العامة، كإقرار سلسلة الرتب والرواتب، ثـمّ التوظيف غيـر الشرعي فـي الإدارات والمؤسّـسات العامة خلافاً للقانون الصادر عام 2017، بالإضافة إلى الصفقات في التلزيمات والهدر والفساد فـي كل دوائر الدولة. 

إقرأ أيضًا: بعد الإنتهاء من مناقشة الأرقام ماذا بعد؟

وما يزيد في الطنبور نغم ما جاء في تصنيف وكالة ستاندرد آند بورز وهى شركة خدمات مالية ومقرها الولايات المتحدة الاميركية، تعمل في مجال التصنيف الائتماني وتصدر تصنيفها لقياس قدرة الحكومات أو الشركات المقترضة على الوفاء بالتزاماتها المالية لدى الجهة المقرضة وكالة ستاندارد اند بورز راقبت على مدى شهر مسار مناقشة الموازنة في لبنان للعام 2019، وما إنْ حطت الموازنة أوزارها وصدرت في مشروع قانون قبل ان تتحول إلى قانون، حتى ادلت بدلوها في الموضوع، فأوجزت في تقريرها وفي تقييمها إن خطة موازنة لبنان لخفض عجزه المالي إلى 7.6% هذا العام، قد لا تكون كافية لاستعادة الثقة التي تضررت في البلد المثقل بالديون.

أما الصدمة في تقرير الوكالة، فحين يقول: تشير تقديراتنا إلى عجز مالي في 2019 عند حوالي 10%. في غياب تعزيز جوهري للإيرادات وإجراءات خفض النفقات، نتوقع أن تواصل نسبة الدين العام للبنان الارتفاع لتتجاوز 160% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2022 من 143% في 2018

فماذا بعد؟ ها هي أكبر وكالة تصنيف عالمية تعطي رأيها في الموازنة؟ فإلى متى سيستمر التلطي وراء الأوهام ووراء الأرقام النظرية؟ ستاندارد أند بورز قالت كلمتها، فعن أي إصلاح تتكلمون فالإصلاح الحقيقي يبدأ في معالجة موضوع التوظيف غيـر الشرعي عن طريق وقف الإعتمادات الـمالية لهولاء الموظفيـن، والبدء بـمحاسبة السارقيـن الأغنياء الجدد وتطبيق قانون «من أين لكَ هذا؟» على كل الذيـن عملوا ومازالوا يعملون فـي القطاع العام. 

إنّ إقرار موازنة 2019 لن يتـمّ قبل شهر ونصف على الأقل فـي مجلس النواب، فـهل تصمد الإصلاحات الـمتواضعة فـي وجه الشعبويّـيـن الذيـن وحدهم يـحـبّون الفقراء؟ كما يجب التنبّه الى أنّ الإنكماش المرتقب نتيجة الإجراءات التقشّفية من شأنه أن ينعكس سلباً على نسبة النموّ التي تتوقّعها الـحكومة. فمعظم خبـراء الإقتصاد يـجزمون أنه لا يـمكن تـحقيق نـموّ إقتصادي وخفض نسبة البطالة وتأميـن فرص عمل، إذا لـم تتمّ خصخصة القطاعات الأساسية فـي البلاد، بعد أن أثبتت الدولة فشلها فـي إدارة مؤسّـساتـها، وتطبيق قانون الشراكة بيـن القطاعيـن الخاص والعام.