قلة كانت فائزة في نوبة التوتر الأخيرة بين الولايات المتحدة وإيران، وما بدأ إلغاءً لإعفاءات الولايات المتحدة لصادرات النفط الإيراني تطور إلى إعادة تموضع القوات الأميركية في الشرق الأوسط وهجمات «الحرس الثوري» الإيراني على ناقلات النفط السعودية والإماراتية وناقلة نرويجية في الخليج العربي، وبلغت ذروة أوامر اللواء قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» لـ«الحشد الشعبي» العراقي، بإطلاق صاروخ باتجاه السفارة الأميركية في بغداد. وفي هذه الأثناء واصل كبار أعضاء القيادة الإيرانية و«فيلق القدس» تبادل الشتائم مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والتهديد الإيراني المعتاد بأن لديهم سلاحاً سرياً يقضي على الأسطول الأميركي في دقائق!

المثير للدهشة في كل هذه التطورات أن تركيا رجب طيب إردوغان التي لا تفوّت فرصة للتعبير عن رأيها في أي شيء في العالم، بصرف النظر عما إذا كان له أي علاقة بالأتراك أم لا، احتفظت بأوراقها مخبأة في صدرها، ولم تصدر أي بيانات رسمية. هناك سبب وجيه لذلك: يستمتع إردوغان برؤية إيران والولايات المتحدة على خلاف كلتيهما مع الأخرى، فإذا اندلعت الحرب بالفعل بين البلدين، فإن حياد إردوغان سيكون لصالحه بالكامل... من ناحية؛ فإن عضوية تركيا في «حلف الناتو» ربما تجبره على المشاركة في الحرب ولو بمعنى رمزي فقط. ومن ناحية أخرى؛ فإن إيران الضعيفة ستمكنه من العمل بحرية أكبر في المنطقة وفي سيناريو متطرف، وعملية إعادة انتعاش إيران، إذا دمرتها الحرب، قد تنقذ اقتصاد تركيا.

يتلقى الاقتصاد التركي الضربات الدولية التي قد تجعل عملته أضعف وتزيد من الركود، وقد حذرت وكالة التصنيف الائتماني «موديز» من إمكانية الإعسار وعدم الحل. وفي الوقت نفسه أعلنت الولايات المتحدة أنها ألغت الوضع التجاري التفضيلي لتركيا، على أساس أنها لا تفي بمعايير الدول النامية. ارتفعت البطالة إلى نحو 15 في المائة، وهذا يصل إلى نحو 5 ملايين شخص، وهذه النسبة مرتفعة أكثر لدى الشباب.

بحلول أواخر شهر أبريل (نيسان) الماضي وصل العجز في البلاد إلى 54.5 مليار ليرة تركية. توجيه الانتقاد إلى إيران تسمعه في تركيا من قبل رجال الأعمال والصناعيين الذين يغتنمون كل فرصة ليعلنوا أن التوتر في العلاقات الخارجية هو المسؤول عن تخفيض قيمة الليرة. ومع ذلك، فإن إردوغان لا يسمح للوقائع المُرة بأن تعرقل طريقه، ويواصل اتباع سياسة خارجية مستقلة وغير متسقة وهو يبحر بين موسكو وواشنطن... من جهة؛ هو يرتب لتسلم أنظمة الدفاع الجوي الروسية «S - 400» (ربما في يوليو/ تموز المقبل)، كما أعلن أن تركيا وروسيا ستنتجان معاً نظام الدفاع الجوي «S - 500»، ومن جهة أخرى ينتظر أن يتسلم من الولايات المتحدة مقاتلات «F - 35» الأميركية! في هذه اللعبة الخطرة، فإن إردوغان هو الوحيد المحتمل أن يخسر. إنه يديم الاحتكاك مع الأميركيين بينما يعزز العلاقات مع روسيا فيما يتعلق بسوريا. ومع تركيز جميع اللاعبين الرئيسيين على إيران، تواصل تركيا العمل في سوريا. في الشهر الماضي بدأت أنقرة بناء جدار إسمنتي حول عفرين في محافظة حلب. ادّعت أنه لغرض الدفاع عنها ضد الهجمات المتكررة من قبل القوات الكردية، لكن في الممارسة العملية هناك اعتقاد لدى كثيرين بأن الهدف الحقيقي هو تسهيل قيام تركيا بضم عفرين لمنع عودة عشرات الآلاف من الأكراد الذين فروا من المنطقة. روسيا لا تفعل شيئاً لوقف هذه المبادرة، على العكس من ذلك؛ هناك اتفاق بين إردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين على العمل في إدلب أيضاً. وهما مشغولان بتنفيذ الاتفاقيات بشأن دوريات عسكرية مشتركة في المحافظة.

ومع ذلك، فإن تحسين العلاقات بين أنقرة وموسكو على حساب علاقات تركيا مع الولايات المتحدة لم يؤدِّ إلى تخلي إردوغان عن الولايات المتحدة تماماً. بعد محادثة هاتفية مع ترمب أخيراً أعلن الأخير أنه يخطط لزيارة تركيا في يوليو المقبل. سيكون من المثير للاهتمام رؤية كيف ستتطور العلاقات الإقليمية بعد انتهاء هذه الأزمة. في الآونة الأخيرة وجدت تركيا نفسها تتصادم أكثر فأكثر مع القوى الرئيسية في المنطقة، ونتيجة لذلك تجد نفسها معزولة بشكل متزايد.
راهنت بعلاقات وثيقة مع قطر، فوضعت نفسها ضد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر. ووفقاً للتقارير الأخيرة، فإن المستثمرين الخليجيين بشكل عام؛ والسعوديين على وجه الخصوص، انسحبوا من تركيا، وهذا بالتأكيد لن يساعد في تحسين الأزمة الاقتصادية العميقة في البلاد.

يعتقد إردوغان أن حرباً على إيران مقبلة، رغم أن كل الأطراف المعنية قالت إنها لا تريد الحرب، بما فيها الدول العربية الأكثر تضرراً من إيران. معادلته: حرب على إيران تساوي فرصاً ذهبية لتركيا؛ تمدداً وانتعاشاً اقتصادياً، وقلقاً خليجياً.

لقد وزع مستشاره ياسين أقطاي مقالاً جاء فيه: «إن القدور في منطقة الخليج العربي تغلي بسبب إيران، ولكن ليس من الواضح من سيسلق في هذه القدور هذه المرة». وشرح مصطلح «غليان القدر» الذي يعدّ مصطلحاً صفوياً قديماً؛ إذ يروى أن الشاه إسماعيل كان يعدم الأسرى أو من يريد معاقبتهم في القدور التي تغلي مياهها، ولهذا كان أهل المدينة يشعرون بالشغف لمعرفة من سيُسلق في مياه القدور التي تغلي مياهها منذ الصباح، وتساءل أقطاي: «مِن أجل مَن تغلي المياه الآن ليوضع فيها؟».

يكتب أقطاي كالمتفرج من شرفة قصره المريح على منطقة الشرق الأوسط، وكأن تركيا لا تقف على مفترق طرق. إن التحديات المعقدة والمتعددة التي تواجهها في الداخل والخارج ستظل تعصف بالبلاد وبإردوغان نفسه، حتى لو كان يعتقد أنه لا يوجد خطر على نظامه المركزي. رغم أن هناك قدراً من المياه الساخنة يغلي داخل تركيا. يمكن لإردوغان أن يقرر الطريق الذي سيسير فيه، ويمكنه مواصلة اتباع سياسة خارجية استباقية تتحدى الولايات المتحدة والغرب عموماً والدول العربية القوية، أو يمكنه قبول اليد التي سيمدها الرئيس ترمب له في شكل زيارة مقبلة لتركيا يطلب فيها كبح نشاط المنظمات الإرهابية مثل «حماس» و«الإخوان المسلمين» على الأراضي التركية، ومتابعة التقارب مع الغرب ودول الخليج العربي. يبقى الخيار خيار إردوغان.

لقد اعتادت أميركا وإيران حرباً باردة بينهما منذ 40 عاماً، ورغم ذلك، فإن المستفيد الأكبر كان إيران.

يكتب أقطاي حكاية أبٍ مارس مهنة المحاماة لسنوات كثيرة قبل أن يتقاعد ويتنازل عن أعماله لصالح ابنه المتخرج حديثاً في مدرسة الحقوق. وذات يوم يأتي ليزف بشرى لوالده: «لقد فزت يا أبي بالدعوى التي عجزت أنت عن إنجازها منذ 15 عاماً». فيتحسر الوالد ويجيب: «هل تعتقد أنك ذكي وأنني لم أنجز هذه الدعوى لأنني عاجز عن ذلك؟! لقد أكلنا خبزاً منها على مدار 15 عاماً، لكنك جئت لتحرق في غمضة عين المركب التي تزودنا بالخبز»!

إن إيران أذكى من أن «تنجز هذه الدعوى» بالحرب. يدور مبعوثوها في العالم والخليج ويتوسطون. ترمب يكتفي بزيادة العقوبات، هو أيضاً لن «ينجز هذه الدعوى» بالحرب. يعامل النظام الإيراني كالمحكومين بالإعدام في السجون الأميركية، قد تمضي سنوات ولا يعرفون متى تحين ساعة إعدامهم، حتى يتم إيقاظهم فجأة صباح أحد الأيام لتنفيذ الحكم.

وقد تكون الحكاية - العبرة التي كتبها أقطاي موجهة إلى رئيسه. لن تنشب حرب في المنطقة لإنقاذ تركيا من أخطاء وأخطار إردوغان.