تنوعت الفعاليات العراقية الرسمية والشعبية الداعية إلى تجنب الصدام المسلح بين واشنطن وطهران لأن العراق بحكم موقعه سيكون ساحة الحريق الكبير إذا حصل.

ومعروف أن القرارات العليا في العراق لا تحكمها مرجعية واحدة، وهناك تباين في المواقف بين الأحزاب والقوى لكن تلك المهيمنة على الحكم ذات الولاء لإيران تتردد في اتخاذ المواقف إلا بعد رضا طهران الواثقة من أن العنصر الأكبر في قدرتها على منازلة واشنطن هو موالوها في الحكم العراقي وفي لبنان واليمن، بهم تكابر وتلعب لعبة استعراض القوة واستخدام أدوات التخريب والمناورة، وهذا الكنز “حكم العراق” هو الذي جاءت به الولايات المتحدة هدية لمن يدعي اليوم عداءه لها، وهو عداء يحتاج إلى الكثير من الأدلة لتصديقه.

في هذه المرحلة الدقيقة من واقع الصراع طلبت طهران من أصحابها تنسيق إيقاعاتهم الإعلامية بهدوء تجاه الولايات المتحدة، وفق مقولة “رفض الحرب” وتحقق ذلك عند الفصائل الرئيسية المؤتلفة في كتلة “الفتح” برئاسة هادي العامري حيث علق بعد حادثة صاروخ الكاتيوشا قرب السفارة الأميركية ببغداد “من يحاول إشعال فتيل حرب انطلاقا من العراق جاهل أو مدسوس”.

مقتدى الصدر يصرّ على مواقفه الشعبوية “الحرب بين إيران وأميركا ستكون نهاية للعراق، وأي طرف يزج العراق بالحرب ويجعله ساحة للمعركة سيكون عدوا للشعب العراقي”. نوري المالكي كان أوضح في الموقف المساند لإيران فقد رفض موقف الحياد “إن لغة الحياد لم تعد مقبولة إنما الموقف الرافض للطرف الذي يريدها”.

مسؤولون في الحشد صرحوا “إذا وقعت الحرب سنكون مع إيران ضد أميركا”، والملفت تصريح وزير الخارجية العراقي خلال لقائه نظيره الإيراني ببغداد قبل يومين حينما أعلن وقوف حكومته مع إيران.

جميع القوى الشيعية في العراق مساندة إعلاميّا للنظام الإيراني وبعض من يرفعون عنوان “المقاومة الإسلامية الشيعية” لا يترددون في استفزاز القوات والمصالح الأميركية في العراق. ولعل رسالة الكاتيوشا بالقرب من مبنى السفارة الأميركية ببغداد دليل على ذلك. لكن الرئاسات العراقية الثلاث اتفقت على ضرورة تجنيب البلد المخاطر عن طريق بلورة تحرك سياسي أسموه “التهدئة” لم يصل إلى حدود الوساطة لأنهم يعرفون حجمهم لدى واشنطن.

ولعل من السخرية أنه حتى في هذا الميدان الدبلوماسي الذي يفترض أن تتولاه رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية حصرا، فقد انطلقت دعوات إعلامية من برلمانيين موالين لإيران مطالبين بتمثيلهم في هذه الوفود. وبادر رئيس الجمهورية برهم صالح إلى نشاط دبلوماسي خارجي بحكم موقعه الرسمي الأول. مثل هذه النشاطات طيبة النيات، لكنها محاولة دعائية للطبقة الحاكمة للإيحاء بأن العراق قادر على الدخول في مشاريع سياسية خارج حدوده.

إن هدف التخويف من الضربات العسكرية الأميركية ضد إيران ليس من أجل مصلحة العراق، وهي ليست بالضرورة أن تكون حربا واسعة إن وقعت. هذا التخويف فيه إيهام ومخادعة لاتجاهات الصراع مع واشنطن بتضخيم أدوار وكلائها، مثلما هو تضخيم لدور القوة العسكرية الإيرانية في تدمير الأسطول البحري الأميركي وبوارجه في الخليج.

إن قراءة واقع التوتر الحاصل لا تشير إلى اندلاع حرب واسعة تشمل العراق والمنطقة، فهذا ما لا يتوقعه أحد من الرئيس الحالي دونالد ترامب، بل المتوقع بعد أي استفزاز حصول ضربات خاطفة لأهداف إيرانية منتقاة، ومثل هذه الفعالية العسكرية إذا حصلت ما علاقة العراق بها إن لم تتحرك الأصابع الإيرانية داخل العراق باستهداف القوات والقواعد الأميركية؟ إذن المشكلة في الواقع السياسي الذي مكن بعض الفصائل الموالية لإيران من أن تقوم بأدوار مساندة للجهد العسكري الإيراني وفي السكوت عن مثل هذه الأدوار.

التاريخ العراقي القريب يحكي أنه سبق للولايات المتحدة في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون عام 1998 أن فتحت معركة صواريخ كبيرة سميت “ثعلب الصحراء” ضد العراق، متذرعة بعدم تعاونه مع لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل فتساقطت مئات الصواريخ من نوع توماهوك على بغداد ومدن العراق الأخرى قادمة من بوارج وسفن حربية متمركزة في البحر الأحمر، ولم تكن بحاجة إلى أن تتمركز في منطقة الخليج مثلما هي عليه الآن. خلفت تلك الضربات الصاروخية عشرات الضحايا وهدمت أهم المواقع الإستراتيجية في العاصمة. ولم تحرك روسيا وغيرها من أصدقاء العراق ساكنا لدعمه والوقوف إلى جانبه. ولم يقف النظام الإيراني إلى جانب العراق بل كان في موقف المتشفي، ولم تطالب قوى سياسية إيرانية موالية أو معارضة بالوقوف ضد أميركا إلى جانب العراق. اليوم إذا وجهت واشنطن ضربات على مواقع إيرانية مختارة كرد على استفزازاتها ما علاقة العراق بذلك؟ ولماذا يقحم في هذا الصراع؟

هذا الإقحام مقصود لخلط الأوراق على المستويين السياسي واللوجستي. وإيران رغم الإدعاءات حول قدراتها “الإلهية” غير قادرة على مواجهة القوة الأميركية، وهي في زاوية محرجة وتتمنى أن تفك واشنطن عنها بعض القيود، لكن كبرياءها يمنعها من ذلك وليست لديها قدرات للمناورة أو المفاوضات، وهي لا تمتلك قوة ردع ذاتية ولا نفسا طويلا لتحمل العقوبات، ولهذا أوعزت إلى حلفائها بتضخيم حالة الحرب ومخاطرها على كل المنطقة وفي مقدمتها دول الخليج، وقدمت أمثلة على تلك المخاطر عن طريق العمليات التخريبية في مياه الإمارات والسعودية.

لكن السؤال يوجه إلى الطبقة السياسية العراقية: بدلا من الدعوات ضد الحرب لماذا لا تتوصلون إلى موقف عراقي مستقل، يقوم على النأي بالنفس ويهدف إلى إبعاد النار عن العراق؟