أما واقعنا فهو كجلمود صخرٍ حطه السيل من علٍ، للتمسُّكٍ بالسلطة الدينية والسياسية بمواقعٍ ومراكز لا يغادرونها إلا بوسائط الموت أو القتل أو الإنقلاب العسكري، فهما ساءت أحوال حكامنا وزعمائنا فهم متمسكون بالحكم وباقون.
 

من الحوزة إلى القرية، ومن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، إلى قرى الجنوب والمحرومين والمستضعفين، مساحة فقهٍ ودينٍ، الذين لا تسكرهم نشوة السلطة وحب الوظيفة، لأنه لكل شيء سكرة، وسكرة السلطة بعيدة الإفاقة، وطالب السلطة لا يُوَلَّى، ولأننا تربينا على منهج أهل البيت (ع)، وحبِّ أمير المؤمنين (ع)، ورسائله إلى الموظفين والولاة، كلها مساحة وعظٍ وتبليغٍ، وإدارةٍ قابضةٍ على كفٍّ من جمر الحقيقة مهما كانت مرَّة، هكذا قالها مؤسس هذا المجلس الإمام موسى الصدر (سأغرف من حبر الحقيقة مهما كانت مُرَّة).

هذه المساحات تدور حول محورٍ واحد هو العدل، وما تواطأ الناس عليه، أباعد وأقارب، مخالفون ومؤالفون، لأن العدل لا يعرف مسايرة،ولا يساير نافذاً أو جهةً وحزباً، والحق لا يبطله شيءٌ، والعدل لا يجوز فيه إلا الحق،وعليكم بالعدل على الصديق والعدو.

إقرأ أيضًا: لبنان بين السايس والحصان...!

والله إني لأعترف بالحق قبل أن أُشهد عليه، فإنَّ أمرنا صعبٌ مستصعبٌ، ولا يعي حديثنا إلا صدورٌ أمينة وأحلامٌ رزينة، هذه وصايا إمامنا علي (ع)، وإلا لماذا نشكل على من تولَّى أمر المسلمين عندما أطلق أيدي الأقارب والأعوان، والأزلام والأصحاب، في كل موردٍ من موارد الوظيفة والسلطة، والجاه والثروة، منقاداً إلى بطانة السوء وأغليمية القبيلة، وسُرّاَق جهد الناس وتعب المحرومين، وهذا عين ما حذّرنا به إمامنا علي (ع) وسيدنا موسى الصدر، إحذروا هؤلاء النفر الذين انتفخت أجوافهم، وامتلأت كروشهم من قروش الأمة، وطمحت أبصارهم، وأحبَّ كل مختلسٍ منهم نفسه وولده، ولطالما ردَّد مولانا علي (ع) على أسماع هؤلاء قوله: (إني لأعرف ما يصلحكم،ولكن لا أصلحكم بفساد نفسي،وما قاله: (أتيتكم بجلبابي هذا وثوبي هذا فإن خرجت بغيرها فأنا خائن).

إقرأ أيضًا: حسبنا كتاب الله...!

وفي تجربتنا الكنسية والدينية تستدعي التوقف مليَّاً، أمام هذه المساحات الوعظية وما فاض من هذه الظاهرة من ترفٍ ماليٍ وإجتماعيٍ ومن مصادرةٍ جعلتنا مجتمعاً مُعلَّباً بعُلبٍ ضيقةٍ ومختومةٍ بختم العتمة.

وفي ذاكرتنا الكنسية تجربة سوداوية أسهمت في سلب الناس لحقوقهم وصادرت حريتهم ومارست أسوأ أنواع الجور طيلة تحكم الدين بالدولة ومؤسساتها، للأقل إن لم نمارس وصايا أهل البيت (ع)، فلنتذكر إستقالة باب الكنيسة الكاثوليكية، تاركاً عرش الكنيسة، فهي حقيقة لكبار وصغار السياسيين والدينيين المتمسكين بكراسي من خشب، وهم جاهزون للتقاتل تحت أية ذريعة من أجلها، وبعدها  تمَّ انتخاب الباب فرنسيس الأول، وأما واقعنا فهو كجلمود صخرٍ حطه السيل من علٍ، للتمسُّكٍ بالسلطة الدينية والسياسية بمواقعٍ ومراكز لا يغادرونها إلا بوسائط الموت أو القتل أو الإنقلاب العسكري، فهما ساءت أحوال حكامنا وزعمائنا فهم متمسكون بالحكم وباقون وإن حالت أحوالهم الصحية دون تمكنهم من واجب القيام بمسؤولية السلطة، والقيادات الدينية يبقون في سلطانهم الديني إلى أن يأخذ الله تعالى وديعته، وهم يأتون بطرقٍ لا تعرف مشروعيتها.

أعاد الله إمام الوطن والمحرومين موسى الصدر، ليثري التجربة الدينية والمؤسسة الشيعية كي يتعظ من لا يتعظ من أهل الدين والدنيا.