مطلوب من قمتي الخليج والعرب أن تضخّ تحوّلا ضاغطا باتجاه يستبق ما تعده تركيا وإيران داخل القمة الإسلامية العادية التي تنعقد بعدهما بيوم واحد.
 

منذ الدعوة التي وجهها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز لعقد قمتين طارئتين، عربية وخليجية، في مكة المكرمة أواخر مايو الجاري، بات للصراع مع إيران وجه آخر. يفترض ويؤمل أن ما بعد تلك القمم الثلاث (بما فيها القمة الإسلامية) ليس كما قبلها، وأن أهل مكة هم فعلا أدرى بشعابها. إيران، نفسها، ستقرأ التطور هذا بشكل آخر يعيد ترتيب تفاصيل الأزمة وأولوياتها على نحو غير معهود.

الرياض لن تستكين إلى مواقف كانت ستصدر عن القمة الإسلامية في دورتها الـ14 العادية المقرر انعقادها وفق روزنامة سابقة في 31 من الشهر الجاري. والرياض قررت أن الأمر جلل وطارئ يستدعي التعامل معه بجرأة تاريخية، وأن بلدان المنطقة عليها أن تدلي بدلو في أمر هو من صلب أمنها الاستراتيجي ويخطّ خرائط الفوضى والاستقرار في راهنها ومستقبلها.

بات من غير المقبول أن يتأمل العرب التوتر المتدحرج في فضائهم تأملا يكاد يكون محايدا. لم يعد جائزا أن يتبلغ الخليجيون والعرب قرار الحرب والسلم الصادر عن العواصم البعيدة، كما قرار السلم والاتفاق المفبرك خلف الكواليس، دون أي اعتبار لرأيهم ورؤاهم، ودون الأخذ في الاعتبار هواجس بلادنا ومخاوف شعوبنا مما يجري، سلما كان أم حربا. بقيت إيران همّا عربيا منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، فيما اعتبرها العالم أجمع تطورا عاديا يتسابق للتعامل معه.

دفعت إيران بثورتها نحو ما وراء الحدود فاخترقت دولنا ومدننا ومجتمعاتنا. تعاملت مع الشيطانيْن الأكبر والأصغر، الولايات المتحدة وإسرائيل، في ما عرف بفضيحة الـ”إيران غيت” (1985) طالما في ذلك ما يحمي نظام الولي الفقيه وما يرفد غزواته في شمال أفريقيا ومصر والسودان، ناهيك عن ورشته الفتنوية التي لا سابق لها في التاريخ الحديث للعراق ولبنان وسوريا واليمن.. واللائحة تطول.

بقيت إيران همّا مهددا للعرب. استطاعت بنجاح أن تحقق ما فشلت إسرائيل في تحقيقه منذ قيامها. لم يعد العرب واحدا (حتى لو اختلفوا) ضد العدو مشترك. باتت إيران في صلب انقسامهم وتشظيهم وتفتتهم. يكفي تأمل حال المجتمع في اليمن من حيث العودة به إلى انقسامات ما قبل قيام جمهوريته. يكفي تأمل المذهبية المقيتة التي فتكت بالعراقيين على نحو لم يعرفه هذا البلد حتى في عزّ أزماته الكبرى منذ قيامه في عشرينات القرن الماضي. يكفي تأمل حال لبنان الذي نال العامل الإيراني من اللحمة داخل الطوائف نفسها، وباتت الانقسامات سريالية لا حدود ولا محددات لها بما بتجاوز السياسي والطائفي والمذهبي التقليدي. يكفي تأمل الكارثة السورية لاستنتاج ما فعله “فيروس” إيران من انتفاخ لأورام دمرت البلد حجرا وبشرا ومبرر وجود.

لا يعرف دونالد ترامب إيران إلا مؤخرا. استخدمها عنوانا من عناوين حملته الانتخابية الأولى، ويحتاجها عنوانا دائما من عناوين حملته المقبلة. الولايات المتحدة نفسها التي لطالما تعاملت مع الحالة الإيرانية وتواطأت معها، تستفيق هذه الأيام على نحو لا يضلل كثيرا أهل المنطقة.

نسجت واشنطن على مدى العقود الأربعة الأخيرة توافقات وتفاهمات مضمرة ومعلنة مع طهران ليس أولها الاتفاق النووي في فيينا عام 2015. راكمت الولايات المتحدة، عاما بعد عام، سلوكيات التراجع والانسحاب أمام إيران. مارست واشنطن ما يشبه الهروب حين حوصر دبلوماسيوها في طهران وخطف مواطنوها في بيروت وفُجرت ثكنة جنودها في لبنان. وبالتالي فإن الخليجيين والعرب يعرفون أن التوتر الحالي بين إيران والولايات المتحدة هو شذوذ عن قاعدة وعرضي مؤقت داخل سياق تاريخي مخيّب. واشنطن تعرف ذلك، طهران أيضا، والعرب أيضا وأيضا.

التئام القمم الثلاث في مكة آخر هذا الشهر يأتي بعد عامين تماما على انعقاد تلك القمم بحضور دونالد ترامب في مايو 2017 في الرياض. القمم الأولى عبّرت عن انفتاح العالم العربي والإسلامي على التعاون مع الولايات المتحدة في مسائل التقدم والتكنولوجيا والسلام ومكافحة الإرهاب. القمم المقبلة يفترض أن تخاطب واشنطن وزعيمها من موقع ما تريده هذه المنطقة من أميركا في سياق أزمتها “المتأخرة” مع إيران. ويفترض أن للمجتمعين في مكة ناصية القرار في شأن ذلك “العراك” العرضي، حتى لو أخذ أشكالا عسكرية نارية، بين إيران والولايات المتحدة.

من غير المسموح أن تشتعل الحرب في ديارنا دون أن يكون لأهل المنطقة قرارها. والقمم بهذا المعنى لا يجب أن تكون موجهة ضد إيران فقط، بل ضد الذهاب بأمن المنطقة نحو المجهول مقابل اتفاقات ثنائية تُعَدُّ على نار خافتة داخل ضجيج صاخب تشي بها بدايات وساطة سلطنة عُمان وغيرها بين واشنطن وطهران. فإذا كان لا بد من الحرب فيجب على العرب أن يكونوا جزءا منها قادرين على ضبطها، حاضرين على موائد مآلاتها.

لقرار الحرب الأميركية ضد إيران حسابات أميركية داخلية تُناقش بين الجمهوريين والديمقراطيين، ويتم إقرارها وفق لعبة شدّ حبال بين الكونغرس والبيت الأبيض. وعلى هذا لا يجب أن تكون الحرب في منطقتنا وليدة مزاج ونكايات وحسابات بيتية أميركية. لا يجب أن يكون العرب رقما داخل ملفات الولايات المتحدة على طاولة المفاوضات “الحتمية” الأميركية الإيرانية. لا يجب أن يكون تطبيع العلاقات الإيرانية العربية بندا من بنود الاتفاق الجديد بين واشنطن وطهران وملحقا وتحصيل حاصل له. ولا يجب أن يمر أي اتفاق أميركي دولي إيراني- على منوال ذلك النووي قبل 4 أعوام- دون أن تكون إرادة الخليجيين والعرب وازنة مقرِّرة ومعطِّلة لشأن يمسّ وجودهم ومستقبل السلم والاستقرار في بلدانهم.

القمم الثلاث، في بعديها العادي والطارئ، مناسبة تاريخية تضع أسسا أولى لنظام إقليمي جديد. ظاهر الصراع الأميركي الإيراني لا يخفي صراعا دوليا عالي المستوى سيحدد طبيعة خرائط الاقتصاد والنفوذ بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا. فلتلك الأساطيل المتقدمة صوب مياه المنطقة أهداف أبعد من تلك التي يتطلبها الرد على مزاج خامنئي ونزق جنرالات الحرس الثوري. فإذا كانت الأزمة الحالية قد توفّر مزيدا من العوامل لتشكّل هذا النظام الدولي العتيد، فإن الزمن يملي على كافة بلدان المنطقة، العربية والخليجية والإسلامية، ألا تكون غائبة عن تطورات تساهم في إعادة تشكّل هذا العالم ورسم خرائطه.

مطلوب من قمتي الخليج والعرب، أن تضخّ تحوّلا ضاغطا باتجاه يستبق ما تعده تركيا وإيران داخل القمة الإسلامية العادية التي تنعقد بعدهما بيوم واحد. أمام العرب خيارات تأخذ بالاعتبار مصالحهم الوجودية كأولوية تسبق تلك التي تقدمها أنقرة وطهران وفق أجندات لا تعنينا. وفي ما هو طارئ في التئام قمم طارئة ما يجب أن يحمل مضمونا يفهمه الجوار قبل أن يفهمه أصحاب الأجندات البعيدة عن ذلك الجوار.