عاجلا أم آجلا، سيظهر هل سيتمكن الحراك الشعبي في الجزائر من الذهاب إلى أبعد من التخلص من عبدالعزيز بوتفليقة… وسيكون قادرا على وضع الأسس للجمهورية الثانية.
 

استهدفت الثورة التي وقف وراءها الشعب الجزائري منذ مطلع السنة 2019 تغيير النظام، وليس الاكتفاء بمنع عبدالعزيز بوتفليقة من الحصول على ولاية خامسة. في الواقع كان مجرّد التفكير في ولاية خامسة لرجل يعاني من عجز كامل على كل صعيد بمثابة استخفاف بعقول الجزائريين لا أكثر. انتفض هؤلاء بطريقة حضارية وحالوا دون تمكن رجال الحلقة المحيطة ببوتفليقة من الاستمرار في حكم الجزائر عبر رئيس عاجز عن قول ولو كلمة واحدة لأبناء شعبه. كان عبدالعزيز بوتفليقة طوال ست سنوات مجرّد غطاء لمجموعة صغيرة حكمت الجزائر من خلاله منذ صيف العام 2013 عندما تعرّض لجلطة عطّلت دماغه وجعلت منه رجلا مقعدا.

هل انتهت الثورة الجزائرية الثانية واستطاع النظام الذي أسسه هواري بومدين في العام 1965 استعادة المبادرة؟ يبدو أن هذا النظام الفريد من نوعه استطاع إعادة استنساخ نفسه بعدما هدأ الشارع الجزائري واكتفى بإنهاء عهد بوتفليقة والتخلص من رموز هذا العهد. على رأس هؤلاء شقيق الرئيس السابق سعيد بوتفليقة الذي استطاع ممارسة دور رئيس الجمهورية منذ العام 2013 وارتكب كلّ الأخطاء التي يمكن ارتكابها من أجل الحصول على براءة ذمّة له وللمستفيدين من السنوات العشرين التي أمضاها عبدالعزيز بوتفليقة رئيسا لجمهورية ليس لديها شيء من اسمها. فالاسم الرسمي للجزائر هو “الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية”.

إذا استثنينا كلمة الجزائر من هذه التسمية، نكتشف أن الجزائر ليست جمهورية أوّلا. إنّها أقرب إلى نظام أمني أكثر من أيّ شيء آخر.

في مطلع العام 1979، بعد أسابيع قليلة من وفاة هواري بومدين، قرّر الجيش من يكون رئيس الجمهورية. كان الخيار بين وزير الخارجية عبدالعزيز بوتفليقة ورجل الحزب الحاكم محمد الصالح يحياوي. اختارت المؤسسة العسكرية – الأمنية ضابطا لا يفهم سوى القليل في السياسة، هو العقيد الشاذلي بن جديد، رئيسا للجمهورية. وجدت في عبدالعزيز بوتفليقة رجلا طموحا لا بدّ من استبعاده كونه يعتقد أن في استطاعته التباهي بشرعية ما تستند إلى أنّه كان من أقرب الناس إلى بومدين.

أمّا يحياوي، الضابط السابق، فكان رجلا صادقا يؤمن بشعارات عهد بومدين، وهي شعارات ذات طابع اشتراكي. لم تكن تلك الشعارات في واقع الحال سوى غطاء استخدمته مافيا عسكرية – سياسية استفادت إلى أبعد حدود من ثروات الجزائر، في مقدّمها النفط والغاز ومن الإجراءات الاقتصادية – المبكية التي حولت الجزائريين إلى فقراء.

في العام 1998، وجد النظام الجزائري أنّ من مصلحته الاستعانة بعبدالعزيز بوتفليقة بعد فقدانه كلّ خياراته السياسية نتيجة إصرار ضابط يمتلك حدّا أدنى من الوعي السياسي اسمه اليمين زروال على ترك موقع رئيس الجمهورية. كانت العودة إلى خيار بوتفليقة مجازفة، خصوصا أنّ لدى الأخير حسابا قديما يريد تصفيته مع العسكر الذين حرموه من الرئاسة في 1979.

أمضى عبدالعزيز بوتفليقة عشرين عاما رئيسا بعد انتخابه في نيسان – أبريل 1999. عمل يوميا على إضعاف النظام الأمني – العسكري. لكنّ الذي تبيّن بعد مرور كلّ هذا الوقت وعلى الرغم من تمكن جماعة بوتفليقة في العام 2015 من عزل الجنرال محمّد مدين المعروف باسم “توفيق”، الرجل القوي في البلاد بصفة كونه يمتلك كلّ الملفات الخاصة بكلّ الشخصيات، أنّ السلطة الحقيقية ما زالت حيث هي. ما زالت لدى العسكر والمؤسسات الأمنية. خرجت هذه السلطة من يد هؤلاء من دون أن تخرج منها.

هذا نظام قادر على إعادة استنساخ نفسه في كلّ وقت. إنّه الجزائر الحقيقية في شعار اسمه “الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية”.

لا وجود لجمهورية ولا وجود لديمقراطية ولا وجود للشعب الجزائري. كلّ ما هو مطلوب من هذا الشعب هو القبول بما يقرّره العسكر. هؤلاء قرروا أن تكون هناك انتخابات رئاسية في الرابع من تمّوز – يوليو المقبل. سيكون هذا التاريخ عنوانا لمعركة يخوضها الشعب الجزائري الذي سيترتب عليه إثبات أنّه ليس عبدا لا لدى العسكر ولا لدى الأجهزة الأمنية التي باتت تمتلك قادة جددا، ليست أسماؤهم معروفة، بعد إدخال “توفيق” إلى السجن مع خليفته عثمان طرطاق المعروف باسم “بشير”. من هم هؤلاء الضباط الجدد الذين يسيطرون حاليا على الأجهزة الأمنية ويسيرون شؤون البلاد من بعيد؟

يقود الجنرال أحمد قايد صالح (80 عاما) والذي استطاع تثبيت نفسه واجهة للمؤسسة العسكرية وللأجهزة الأمنية، والذي اختار اللحظة المناسبة للانقضاض على جماعة بوتفليقة، معركة استنساخ النظام الجزائري لنفسه. تأتي هذه المعركة في وقت يبحث الجزائريون عن الجمهورية الثانية التي تعني أوّل ما تعني التخلّص من النظام الذي صنعه هواري بومدين والذي أوصل في نهاية المطاف عبدالعزيز بوتفليقة إلى الرئاسة في 1999.

من سينتصر في نهاية المطاف؟ الشعب الجزائري أم النظام؟ هذا هو السؤال الذي سيطرح نفسه في الأشهر القليلة المقبلة، اللهمّ إلا إذا كان الحراك الشعبي الذي حال دون تمكن جماعة بوتفليقة من الحصول على ولاية خامسة له، بدأ يفقد زخمه.

لا شكّ أن الوضع الجزائري دخل مرحلة جديدة بعدما تبيّن أن إجراء انتخابات رئاسية صار أمرا واردا. تحوّل إجراء هذه الانتخابات إلى هدف بحدّ ذاته للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية التي تصرّ على احترام نص الدستور ومواده من أجل تنفيذ أهداف سياسية محدّدة.

لا شكّ أيضا أنّ لدى المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية ما تحمي به منطقها وإصرارها على إجراء انتخابات رئاسية في موعدها. هناك تذرّع بأنّ أي تأخير في إجراء الانتخابات ستكون له انعكاسات سلبية على الاستقرار في بلد يخشى فيه المواطن العادي انفلات الوضع الأمني.

لا يزال المواطن الجزائري يتذكّر العشرية السوداء أو “عشرية الجمر” بين 1988 و1998. لا يوجد مواطن جزائري واحد يريد عودة الأحداث التي شهدتها تلك السنوات العشر التي استخدمت فيها المؤسسة العسكرية كلّ ما تملكه من أدوات قمعية للقضاء على جماعات إسلامية متطرّفة ولدت من رحم الإخوان المسلمين. أرادت تلك الجماعات الاستيلاء على السلطة بكل بساطة وجعل الجزائر “إمارة” إسلامية على الطريقة الطالبانية.

عاجلا أم آجلا، سيظهر هل سيتمكن الحراك الشعبي في الجزائر من الذهاب إلى أبعد من التخلص من عبدالعزيز بوتفليقة… وسيكون قادرا على وضع الأسس للجمهورية الثانية. سيتقرّر ذلك في الرابع من تمّوز – يوليو المقبل.

أي في الموعد المقرّر للانتخابات الرئاسية. إذا أجريت تلك الانتخابات في ظل مقاطعة شعبية، وفي ظلّ غياب الفرق المفترض أن تنظم تلك الانتخابات وتشرف عليها، يكون النظام الجزائري نجح مرّة أخرى في استنساخ نفسه. معنى ذلك أنّه يمتلك قدرة فائقة على القيام بعملية الاستنساخ هذه. فإذا كان عبدالعزيز بوتفليقة رجل مرحلة 1998- 1999، فإن أحمد قايد صالح يبدو رجل السنة 2019 التي ستكون سنة مصيرية للجزائر والنظام فيها…