ميقات الصلاة حسب موازين العلم والشّرع

إن حركة الشمس هي المعوّل عليها في بيان مواقيت الصلاة، فهي تبدو لنا على شكل القرص، وليس ضوءاً على شكل نجم، وهذا ما يعبّر عنه في حال غروبها بأنّه يجب اختفاء سطحها الأعلى تحت الأفق، بحيث إنّه يجب اختفاؤها تمامًا، كما هو الحال في الشّروق، يكفي بزوغ أعلى جزء منها فقط، وإن بقي أغلب القرص تحت الأفق، وهكذا في الزوال، تكون العبرة بعبور مركز الشمس لدائرة الزوال.

وعلى هذا الأساس، من الممكن أن نميّز المغرب بوصول مركز الشّمس إلى الأفق الغربي، بمعنى من الممكن اعتبار وجود الشمس تحت الأفق الغربي بمقدار 18 درجة هو نهاية وقت الشفق الأبيض، فهناك ربط بين وقتي الفجر والمغرب بحركة الشّمس الظاهرية، فبداية المغرب فلكليًّا وعلميًّا هو وصول الحافة العليا للشّمس إلى الأفق الغربي.

فالعملية الحسابية المستفاد منها من خلال علم الفلك، وارتباط مواقيت الصلاة بشكل عام من الناحية الشرعيّة بحركة دوران الشمس حول الأرض، هذا يوصلنا إلى أن الحركة الشمسية الكونية لا تنفصل، ولا يمكن إغفالها في تحديد المواقيت على نحو الدقّة للصلوات الخمس، ونحن هنا حديثنا حول دخول وقت صلاة المغرب والإفطار على وجه الخصوص. لذلك، فمن الناحية العلميّة، فإنَّ سقوط القرص هو وقت المغرب، وهذا ما سنحاول بحثه أيضًا من الناحية الشرعيّة.

وأحبّ أن أوضح  مسألة قبل الشّروع في رأي الفقهاء، في أنه علينا أن نميّز بين أمور ثلاث:

الأمر الأوّل: استتار القرص: وهو غياب قرص الشمس تمامًا.

الأمر الثّاني: ذهاب الحمرة المشرقية: وهو عكس مكان الغروب -الشَّرق- يلاحظ فيه ظهور حمرة تستمرّ قرابة الـ 13-15 دقيقة، فعندما تذهب الحمرة، يسمّى ذلك بذهاب الحمرة المشرقيّة.

الأمر الثّالث: ذهاب الحمرة المغربيّة. تأتي الحمرة المغربيّة بعد ذهاب الحمرة المشرقية، وتستمرّ قرابة الساعة، ويكون موقعها جهة الغرب، أي المكان الذي سقط فيه قرص الشمس، وهو ما يعبَّر عنه أيضًا بذهاب الشفق.

الرأي الفقهي

إن المغرب مشتقّ من الغروب، وهو غيبوبة الشّمس بانحطاطها في نهاية الأفق[1]، وقد جاء في "المعتبر" للمحقق الحلّي، أن دخول وقت صلاة المغرب يتحقّق بالغروب، وهو إجماع العلماء، وآخره للفضيلة إلى ذهاب الشّفق‏[2]. ويعلق الشيخ البهائي على نص الرواية: "حيث يغيب حاجبها"، ظاهره سقوط القرص، فإن ما يبقى من جرم الشّيء بعد غيبوبة أكثره، ربما يشبه الحاجب[3].

ويستفاد مما أفاده العلامة الحلّي في تذكرته، أن أول وقت المغرب غروب الشمس ‏بإجماع العلماء، وأنّ في زمانه يوجد من يرى بسقوط القرص، وكذلك بذهاب الحمرة، فمن ذهب لسقوط القرص، راعى مسألة الظهور في الصحاري، وأما في العمران والجبال، فيستدلّ عليه بأن لا يبقى شي‏ء من الشّعاع على رؤوس الجدران، وقلل الجبال، وعليه الجمهور كاف[4]. ولعلّ ذلك كونهم في القرن الثامن الهجري وما قبله وما بعده، لا يمتلكون تلك الوسائل الحديثة ذات الدقة العالية لمعرفة دخول المغرب، فيميّزون بين الصحاري والمدن والجبال في هذا المجال.

ويقول الشيخ الطوسي: "ووقت المغرب غيبوبة الشّمس، وآخره غيبوبة الشّفق، وهو الحمرة من ناحية المغرب. وعلامة غيبوبة الشّمس، هو أنّه إذا رأى الآفاق والسماء مصحية، ولا حائل بينه وبينها، ورآها قد غابت عن العين، علم غروبها، وفي أصحابنا من يراعي زوال الحمرة من ناحية المشرق، وهو الأحوط"[5]، فيستفاد من كلماته، أنه يرى بالاحتياط الاستحبابي زوال الحمرة المشرقيّة، ولكنّ دخول وقت المغرب يتحقّق بغيبوبة الشّمس.

وذهب البيهقي في إصباحه إلى ذلك أيضًا، وهو من أعلام القرن السادس الهجري، حيث يقول: "وأوّل وقت المغرب غيبوبة الشّمس، بأن يراها غابت عن العين والسّماء مصحية، ولا حائل بينه وبينها. وفي أصحابنا من يراعي زوال الحمرة من ناحية المشرق، وهو الأحوط"[6].

ومن الملاحظ جدًا، أن البيهقي قد أخذ النصّ ذاته الذي استخدمه الشيخ الطوسي، ما يدلّ على أن هذا الرأي كان سائدًا بين كبار الفقهاء عبر قرون متعدّدة.

وقد ناقش المسألة ابن أبي جمهور الأحسائي في مسالكه، حيث قال: "وهل الغروب يحصل بنفس الغيبوبة أو يحتاج إلى زيادة أخرى؟"[7]. وخلاصة قوله: "وقال آخرون باشتراط زوال الحمرة من جهة الشّرق، وبه روايات، إلا أنّ الأقوى، أنه علامة على الغروب لا أنّه الغروب، ولا يشترط فيه، بل جُعل علامة لمكان الحائل والشّكّ، وإلا فالغروب يتحقق بالغيبوبة، وبه روايات صحيحة"[8].

وذهب الفاضل الهندي في كشف لثامه، بعد إيراد ما يتعلّق بالمسألة: "وأولى بذلك قول أبي علي: غروب الشّمس وقوع اليقين بغيبوبة قرصها عن البصر من غير حائل، ودليله تلك الأخبار المطلقة بأنّ وقتها غيبوبة القرص أو تواريه، أو غيبوبة الشّمس، أو غروبها، لانصرافها لغةً وعرفاً إلى القرص دون الحمرة[9].

ومن جميل ما وجدت في هذا المجال، ما قاله المحقّق السبزواري في ذخيرته: "وبالجملة، من تأمّل هذه الأخبار وأمعن النظر فيها، يعلم أن المستفاد منها ما اخترناه، وما دلّ منها على أنّ أوّل المغرب سقوط القرص أو غروب الشّمس أو استتار القرص متواتر معنى، ولا خفاء في أن المفهوم منها بحسب اللّغة والعرف ما ذكرناه، ولا يفهم أحد منها ذهاب الحمرة المشرقيّة، ومن المستبعد أن يقال إنّ المعصومين (عليهم السلام) ثبّتوا الوقت وحدّدوه في هذه المواضع الكثيرة بعبارات يفهم منها خلاف المعنى المقصود لغةً وعرفاً.."[10]. فكلامه من أوضح الواضحات، وكفيل برفع أشدّ المبهمات.

وهذا ما نجده أيضًا عند الصّدوق في علله، وابن الجنيد، وابن بابويه القمّي في فقه الرّض[11]، والقاضي ابن البراج[12]، والسيد المرتضى في بعض رسائله، والسيّد العاملي صاحب المدارك، والنّراقي في المستند، وبحر العلوم على ما استظهر في مفتاح الكرامة من حاشيته، والمحدث الكاشاني في المفاتيح، والوافي والمجلسي في البحار[13]، وغيرهم من الفقهاء من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ممن يرى أن الغروب وتحقّق دخول وقت صلاة المغرب والإفطار، يكون بسقوط القرص والاستتار، ولا يجب انتظار ذهاب الحمرة المشرقيّة، وإن صرّح بعضهم بالاحتياط الاستحبابي انتظار ذهاب الحمرة.

خلاصة:يوجد اتفاق بين العلماء على وقت المغرب الذي يجوز عنده الإفطار وصلاة المغرب وانقضاء وقت الظّهرين مع الغروب، ولكنّهم اختلفوا فيما يتحقّق به الغروب، فكما رأيت بأنّ هناك جمعاً كبيراً من العلماء يظهر من أقوالهم بتحقّق الغروب بسقوط القرص.

 مع الفقهاء المعاصرين

من أبرز الفقهاء الذين يتوافقون مع من يرى دخول وقت المغرب من العلماء المعاصرين بسقوط القرص؛ السيّد فضل الله، فهو قد استند على ما ذهب إليه أستاذه السيّد الخوئي، وكذلك السيّد الحكيم، فقد أجاب عن سؤال وجّه له حول الغروب الشّرعيّ فأجاب: نحن رأينا، كما هو رأي السيّد الخوئي ورأي السيّد الحكيم وكثير من العلماء، أنّ الغروب يتحقّق بسقوط قرص الشّمس وليس بغياب الحمرة المشرقيّة[14]. نعم، يستفاد منه أن يرى أفضليّة تأخير صلاة المغرب لغياب الحمرة المشرقيّة كاحتياط استحبابي، "ويتحقّق الغروب بغياب القرص، وإن كان الأفضل تأخير أدائها إلى زوال الحمرة المشرقيّة"[15].

يقول الشيخ اللّنكراني: "ووقت فضيلة المغرب من المغرب إلى ذهاب الشّفق، وهو الحمرة المغربية؛ وهو أوّل وقت فضيلة العشاء .."[16]. والعبارة نفسها قد ذكرها السيد محمود الهاشمي في منهاج الصالحين[17]، ويقول السيّد المدرسي: وقت المغرب والعشاء (ويطلق عليهما: العشائين) من سقوط قرص الشّمس وغروبها إلى منتصف اللّيل"[18]، وقد أجاب الشيخ مكارم الشيرازي حول السّؤال التالي: هل يجوز تناول الإفطار حين سماع أذان المغرب من غير إکراه مع إخواننا من أهل السنّة، حيث نعمل معهم في قطاع واحد، وتأخيرنا يسبّب نوعاً من الإحراج؟ وشکرًا. الاجابة: لا مانع منه. ورأيه: يتحقق بسقوط القرص، وإن کان الأحوط الصّبر إلي زوال الحمرة.[19]

وعندما ناقش السيّد الخوئي مسألة عدميّة دخول وقت المغرب مع استتار القرص، طرح تساؤلاً مفاده: أنّ الوقت الحاصل ما بين غروب الشّمس وذهاب الحمرة المشرقية، إذا لم يكن من وقت صلاة الظّهرين؛ وبالوقت نفسه، كيف يكون أيضًا أنّه ليس لوقت صلاة العشائين؟!. لذلك فهو يقول: "وعلى الجملة، لازم القول الأشهر بعد ملاحظة الاتّصال المزبور المفروغ عنه بينهم، كما عرفت، جواز إيقاع الظّهرين بعد الغروب، وهو مخالفٌ للاحتياط جداً لو لم يكن مقطوع العدم، فكيف يُدَّعى أنّه موافق له؟"، إلى أن يقول: "وهذا بخلاف ما لو فسَّرناه بسقوط القرص، فإنَّه لا بشاعة في الالتزام بلازمه من جواز الإتيان بصلاة المغرب حينئذٍ مباشرة، بل قد نطقت به جملة من النّصوص. نعم، الأحوط عملاً التّأخير حذراً من مخالفة القول الأشهر، وهو أمر آخر"[20].

وقد ناقش الشيخ الإيرواني الروايات الدالّة على سقوط القرص وذهاب الحمرة المشرقيّة، فخرج بهذه النتيجة: "وهذه بعض الروايات التي قد يستدلّ بها لاعتبار ذهاب الحمرة المشرقيّة، وقد اتّضح عدم تماميّتها دلالة، بل عدم تماميّة سند بعضها أيضاً، لأنَّ روايات القول الأوّل - الاستتار - أظهر في الدَّلالة على كفاية الاستتار، بخلاف روايات القول الثّاني - ذهاب الحمرة المشرقيّة - فإنها ظاهرة في اعتبار زوال الحمرة. وطبقاً للقاعدة العرفيّة بلزوم تأويل الظّاهر لحساب الأظهر عند تعارضها، يلزم تأويل روايات القول الثّاني بحملها على الاستحباب". وعندما يناقش موقف المشهور، يقول: "إنَّ الأظهر روايات الاستتار، كما لا يخفى، فما ذكر غريب بالنِّسبة إلى من ذهب إلى وجوب انتظار ذهاب الحمرة المشرقيَّة".

فالروايات التي تقول بذهاب الحمرة المشرقيّة بحدود العشر روايات، بينما التي تقول باستتار القرص تفوق العشرين رواية، وهي أصحّ وأكثر تماميّة في الدلالة، فالأخبار الواردة باستتار القرص تكاد تبلغ حدّ التواتر، وهذا ما نجده في "الرياض" أنها متواترة قطعًا، وفي "جامع أحاديث الشيعة"[21]، و"وسائل الشيعة"[22]، و"البحار" ج18[23]، وغيرها من الجوامع الحديثية والفقهية.

أمثلة روائية

عن أبي عبد الله (ع)، صحيحة صفوان بن يحيى، عن إسماعيل بن جابر يقول: قال سألته عن وقت المغرب: قال: "ما بين غروب الشَّمس إلى سقوط الشَّفق".

وعن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (ع) قال: سمعته يقول: "وقت المغرب إذا غربت الشّمس فغاب قرصها".

 عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن الباقر (ع) قال: قال رسول الله (ص): "إذا غاب القرص، أفطر الصّائم، ودخل وقت الصّلاة".

نتيجة:

مما نستنتجه بموضوع دخول وقت المغرب علميًّا وشرعيًّا، أنه يتحقق باستتار القرص المتبيّن معناه بما أفاده علم الفلك من جهة، وتواتر الروايات الصّحيحة من جهة، وقول الكثير من الفقهاء من جهة أخرى.

أمّا أخبار التأخير، إنما وردت إرشادًا لتحقق حصول اليقين، ولذلك هي مختلفة في بعضها البعض، فتارةً ذهاب الحمرة، وتارةً تجاوزها عن قمة الرأس، وتارةً تغير الحمرة، وتارةً إقبال الحمرة من المشرق يعني المولود، وتارةً بدو نجم واحد، وتارة بدو أنجم ثلاثة.

وهذا يعني أنها ليست بصدد بيان حدّ للمغرب الحاصل بالغروب المتبيّن معناه عند الغروب، وإنما صدرت لبيان أمارة حصول الغروب التي يصحّ معها للمكلّف ترتيب أثر حصول الغروب والإفطار، وفعل صلاة المغرب، والإفاضة من عرفات وغيرها من أحكام الغروب، ولكنّنا في وقتنا الحاضر، مع تطور العلم اليقينية، ومعرفة تحقق الغروب بشكل قطعيّ غير قابل للشكّ، فلا أجد لمسألة الاحتياط الواردة بهذه الرّوايات أيّ واقع، وهذه دعوة لقراءة جديدة لمجموع الروايات الاحتياطيّة التي تدعو لانتظار ذهاب الحمرة المشرقيّة، وخصوصًا أن بعضها ورد عن ابن الخطاب الكوفي الملعون على لسان أئمة أهل البيت (ع).


[1]  قال به في المقنعة، ص93.

[2]  المحقق الحلي، نجم الدين بن جعفر، المعتبر، ج2، ص30.

[3]  نقل ذلك العلامة المجلسي في ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، ج4، ص319.

[4]  العلامة الحلي، حسن بن يوسف، تذكرة الفقهاء، ج2، ص310.

[5]  الطوسي، الشيخ أبو جعفر محمد بن حسن، المبسوط في فقه الإمامية، ج1، ص74.

[6]  البيهقي الكيدري، قطب الدين، إصباح الشيعة بمصباح الشريعة، تحقيق الشيخ ابراهيم البهادري، مؤسسة الامام الصادق، قم، إيران، ص59-60.

[7]  الأحسائي، ابن أبي جمهور، المسالك الجامعية في شرح الرسالة الألفية، جمعية ابن أبي جمهور الأحسائي لأحياء التراث، نشر دار المحجة البضاء، بيروت، لبنان، 2014، ص215.

[8]  م.ن

[9]  الفاضل الهندي، كشف اللثام، ج3، ص36.

[10]  السبزواري، الشيخ محمد باقر، ذخيرة المعاد، ج1 ق2، ص192.

[11]  القمي، ابن بابويه، فقه الرضا، ص73، ص103.

[12]  ابن البراج، القاضي، المهذب، ج1، ص69. وكذلك قد ذكر ذلك في جواهر الفقه، ص255.

[13]  راجع حاشية مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام، للشيخ الجواد الكاظمي، ج1، هامش ص351.

[14]  فضل الله، محمد حسين، الندوة، دار الملاك، بيروت، لبنان، 2009م، ج20، ص489.

[15]  فضل الله، محمد حسين، أحكام الشريعة، دار الملاك، بيروت، لبنان، 2011م، ص106.

[16]  اللنكراني، الشيخ محمد الفاضل، الأحكام الواضحة، مركز فقه الأئمة الأطهار، قم، إيران، 2003م، ص115.

[17]  الهاشمي، السيد محمود، منهاج الصالحين، مركز الغدير، بيروت، لبنان، 2011، ج1، ص150.

[18]  المدرسي، السيد محمد تقي، أحكام الإسلام، مركز العصر، 2005م، ص116.

[19]  موقعه الرسمي: https://www.makarem.ir/main.aspx?lid=2&typeinfo=21&catid=1746

[20]   الخوئي، أبو القاسم، المستند في شرح العروة، باب الصلاة، ج1، ص185

[21]  من ص 59 إلى ص 64 ح 2.

[22]  المواقيت من كتاب الصلاة وأبواب ما يمسك عنه الصائم، ووقت الإمساك من كتاب الصوم ، وأبواب الوقوف بعرفات والمشعر من كتاب الحج ، وبعض أبواب الحيض من كتاب الطهارة.

[23]  باب الصلاة، من ص 32 إلى 63.

 

الشيخ صلاح مرسول