وسط صمت حزب الله، حالياً، إزاء المشهد السياسي والمالي القائم في البلد.. وفي ظلّ صمت رئيس الحكومة سعد الحريري، أيضاً (بالمعنى السياسي)، ثمة مواجهة من نوع آخر، تستكمل دورتها بين التيار الوطني الحرّ وحركة أمل. لا تُخفى العلاقة التي "لا تُهضم" بين الرئيس نبيه بري والوزير جبران باسيل. والأخير يبحث دوماً عن تسجيل "انتصارات" على حساب رئيس المجلس النيابي. يعرف باسيل أن جزءاً أساسياً من شعبيته، يقوم على مهاجمة القوى الأخرى، سياسياً وشعبوياً، مدعياً "الهجوم على الفساد وضرورة مكافحة رموزه"، كما الترويج أن "التيار الوطني الحرّ" ورث إرثاً ثقيلاً من الديون، واستعصاءً للحلول. ولذلك، المقدام الذي لا يتراجع عن المواجهة وشن الحملات.

البحث عن العدو 

قد يكون تصريح باسيل الشهير والذي أهان فيه رئيس المجلس، أحد أبرز العوامل التي ارتكز عليها لخوض معركته الانتخابية. فهي بنظره أسهمت في تجييش جمهوره، بعد تحالفه مع الرئيس سعد الحريري، رمز السنية السياسية، التي لطالما خاض التيار الوطني الحرّ معاركه ضدها، وحرض جمهوره ضد إرثها. فتحولت المعركة من مواجهة السنية السياسية، التي تنازلت لرغبات التيار الوطني الحرّ، إلى مواجهة حركة أمل. طبيعة باسيل وقوته الشعبية والسياسية، لا يمكن لها أن تستمر من دون عدو أو خصم. ومنذ التسوية الرئاسية، فإن الخصم الأساسي لباسيل يبقى رئيس مجلس النواب. هذا بمعزل عن القوات اللبنانية وتيار المردة في البيئة المسيحية. 

المشكلة الأساسية لدى الرجلين اللدودين، هي أنهما "يلعبان" مع بعضهما البعض الدور نفسه لدى حزب الله. يمثّل نبيه برّي "عقل" حزب الله في مؤسسات الدولة وفي العلاقات مع الخارج. وبالتالي، هو أحد المرتكزات الأساسية في معادلة الحزب السياسية. باسيل من جهته أيضاً، كرئيس للتيار الوطني الحرّ، هو واحد من تلك المرتكزات الحزب. ولا يتوانى عن اللعب في كل الساحات لكسب ودّ حزب الله وتأييده الشامل. سعى منذ البداية إلى التقدّم على رئيس تيار المردة وقطع أشواطاً بذلك. والآن يركّز معركته مع برّي. تبدو حظوة باسيل في مكان ما أكبر من حظوة برّي، باعتباره رئيس أكبر تيار مسيحي، على عكس برّي الذي لا يمكنه تمنين الحزب على مواقفه.

ما يريده حزب الله 

صحيح أن حزب الله أوكل للرئيس نبيه برّي ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية، وهذا لم يرق لباسيل، الذي أراد أن يكون الإخراج المُرضي للحزب، من صنعه. وهذا ما أدى إلى التوافق اللبناني على موقف موحد في التلازم بين ترسيم الحدود البرية والبحرية. وهو العنوان الذي رفعه برّي والحزب. إلا أن باسيل في اجتماعاته مع ساترفيلد، ذهب أبعد من ذلك. صحيح أيضاً أنه وافق على ترك المساحة المتنازع عليها في البحر رهن سير المفاوضات، إلا أنه لم يوافق على الاقتراب من نقطة أساسية، وهي أن ترسيم الحدود براً وبحراً لن يكون له علاقة بطرح ملف سلاح حزب الله على طاولة البحث، وهذا موقف كبير من الديبلوماسية اللبنانية تجاه الغرب وخصوصاً واشنطن، لصالح حزب الله.

وفق هذا المنطق، يقود باسيل مختلف معاركه. وهو يرفع شعار "الشراكة الكاملة"، أو الاستمرار في معركة استعادة "الحصة الكاملة" في السلطة. وهو موقف كرره باسيل خلال تعليقه على توقيف رئيس الاتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، مطالباً باستقالته، ومعلناً عدم الاعتراف بالاتحاد وهيئاته قبل تصحيح التمثيل فيه، طامعاً في منازعة بري في السيطرة على الاتحاد العام. كانت معارك التيار الوطني الحرّ مركزة على السنّية، بوصفها التي تأكل حصة المسيحيين، وفق التحالف الذي قام في السنوات السابقة بين السنّة والموارنة. وبعد التحالف بين التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل، كان لا بد لباسيل من البحث عن معركة "استعادة الحقوق" في مكان آخر، فلم يجد غير رئيس مجلس النواب.

الاتحاد العمالي 

وتتجلى هذه المعركة في محطات متعددة، كان أبرزها مؤخراً، معركة افتتحها باسيل باكراً لاستعادة موقع رئاسة الاتحاد العمالي العام، ومعركة الموازنة، التي أراد باسيل أن يختار هو بنفسه توقيت إنجازها، ونجح في فرض ورقته، كخلاصة للأرقام التي يجب أن تتحقق. وهذا ما أدى إلى نشوب خلاف بينه وبين وزير المال علي حسن خليل، الذي كان يؤكد بأن الموازنة انتهت، فيما باسيل يشير إلى أنها بحاجة إلى المزيد من الجلسات. وبالنهاية حصل ما يريده باسيل، الذي يحسن صناعة الصورة والخبر عن نفسه، ويجيد سرعة صناعة الحدث وكأنه صانعه، فينسب كل الإنجازات لنفسه ولو كان الآخرون قد تقدموا بها.

يحاول باسيل الاستفادة أكثر من الوضع القائم اليوم. وهو يراهن على التحالف مع حزب الله، وعلى غض النظر من قبل الحزب عنه، على قاعدة مقايضة، قوامها كما بات معروفاً أن يقدّم التيار الوطني الحرّ للحزب ما يريده في الاستراتيجيا، مقابل أن يمنحه الحزب ما يريد في السلطة. وهذه التصرفات التي يحسن باسيل القيام بها، تتسبب ببعض من الإرباك لدى الحزب، الذي يحرص على التوفيق بين حليفيه. خصوصاً أن المعركة التي يخوضها باسيل هي ضد رئيس مجلس النواب، الذي يُعتبر في الوجدان الشيعي بأنه حارس حقوق الطائفة داخل الدولة. وبهذا المعنى، قد يخطئ باسيل ويسيء فهم صبر نبيه برّي عليه حتى الآن.

صورة الضعف

يعمل باسيل وفق قاعدة يسعى هو بنفسه دوماً إلى تكريسها، وهي أن برّي لم يعد بالقوة التي كان يتمتع بها سابقاً، لا بل أصبح في حال ضعف، لا سيما بعد تراجعت أرقام حركة أمل في الانتخابات الأخيرة. وحتى أن هناك تراجعاً في دور برّي على طاولة مجلس الوزراء. فهو الذي كان سابقاً يلجأ إليه الجميع لإيجاد المخارج للأزمات الحكومية. هذا الدور يتعرّض للقضم من قبل باسيل، الذي يصرّ دوماً على إظهار نفسه "المقرر". وهذا ما أراد تكريسه أثناء جلسات الحكومة لمناقشة الموازنة.

يراهن باسيل على فقدان "العصبية" لدى حركة أمل، باعتبار أن حزب الله نجح في السيطرة ليس على الطائفة الشيعية فقط، بل على لبنان ككل. ونجح في الاستحواذ على شعبية برّي داخل الطائفة الشيعية، فقوة برّي لا تترجم إلا داخل البيئة الشيعية. وبما أن أرقام الانتخابات أظهرت أن ما حققته حركة أمل هو أقل من نصف الأصوات التي حصل عليها نواب حزب الله، دفعت باسيل إلى اعتبار أن قوة برّي وفعاليته على أرض الواقع ليستا كما هي مصّورة، والتي يحرص حزب الله على الحفاظ عليها مناصفة. فينظر باسيل إلى حزب الله كممثل أول للطائفة الشيعية، مغذياً صورة الضعف لحركة أمل ونبيه برّي.

بقي أن نترقب ما يحضّره رئيس أمل لرئيس "التيار الوطني الحر"، سياسياً وبرلمانياً.. وانتخابياً.