كان سيخيب ظنُّ اللبنانيين لو لم يعد مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد ساترفيلد الى بيروت بعد جولته على المسؤولين الإسرائيليين، إذ إنّ بعض المؤشرات أوحى باستبعاد العودة خصوصاً أنه كان قد شدّ أحزمته بعد ظهر السبت الماضي عائداً الى بلاده، لأنّ الزيارة لم تكن موفّقة بكاملها والثقة المفقودة ببعض ما طرحه لبنان إسرائيلياً تلاقت مع الشكوك الأميركية. فما هي المعلومات المتوافرة، وما هو المنتظر؟
 

عندما غادر ساترفيلد بيروت الجمعة الماضي الى تل ابيب توسع بعض المحللين في الحديث عن أجواء ايجابية الى حدود المغالاة. فالمهمة التي تكفّل الرجل المضي بها لـ «تسهيل» المفاوضات غير المباشرة في شأن ترسيم الحدود البرية والبحرية مع اسرائيل في اطار سلة واحدة ليست سهلة، لأنه يدرك حجم المخاطر المحيطة بها لأسباب تتصل بالواقع اللبناني وأخرى مرتبطة بساحة المنطقة التي تغلي على وقع المواجهة المفتوحة بين واشنطن وطهران على شتى الإحتمالات. ولا يمكن استثناء الساحة اللبنانية من كونها إحداها، فعليها من القوى المستهدفة بالعقوبات الأميركية المفروضة ابرز اصدقاء ايران وأقواهم ليس في لبنان فحسب بل في منطقة انتشار النفوذ الإيراني خارج الحدود الجغرافية للجمهورية الإسلامية.

وخلافاً لما تمّ تصويرُه من اجواء ايجابية مرتقبة من زيارة اسرائيل، فإنّ ساترفيلد الذي رحب بتوحيد الموقف اللبناني من مسألة الترسيم لم يقتنع بكل الطروحات اللبنانية. فهو يعرف تمام المعرفة الملاحظات اللبنانية التي تنسف الخرائط التي وضعها الموفد الأميركي السابق كريستوفر هوف منذ العام 2009 في شأن الخط البحري للمياه الإقتصادية الخالصة واعتراضه على شطب 860 كيلومتراً مربعاً من المياه الإقليمية من البلوكين 8 و9. وليس من السهل تجاوز هذه العقدة بوجهيها اللبناني والإسرائيلي على حدّ سواء. 

والأخطر في ما هو متداول من «عقد بحرية» مستعصية، فإنّ المعضلة مرتبطة برسم رأس الخط البري فهو في اساس الترسيم البحري الذي بناه لبنان نتيجة اعتماده النقطة «B1» الواقعة عند آخر شبر من الأراضي اللبنانية البرية الساحلية التي يمكن أيّ لبناني ان يقف عندها ولا يمكنه القبول بالتراجع عنها. فيما تصرّ اسرائيل على اعتماد نقطة أخرى تقع شمالها بعشرات الأمتار. وهو خلاف تسبّب بنسف الآمال في إمكان أن تحقق كل المحاولات السابقة للترسيم اهدافها وهو ما شهدت عليه مهمة كل من الموفدين الأميركيين كريستوفر هوف وعاموس هولكشتاين ما بين العامين 2008 والعام 2013 ولم ينجح مَن تسلّم الملف بعدهما في مهمته حتى اليوم.

وفي المعلومات المتداولة على نطاق ضيق انّ ساترفيلد إصطدم بالرفض الإسرائيلي للعرض اللبناني مشكِّكاً بالتوافق اللبناني على مثل هذه الخطوة التي عدّها جديدة. فلمسات «حزب الله» لم يرها أحد منهم في الصيغة المقترحة وهم يتوقعون رفضاً من جانب قيادة «حزب الله» الذي سيكون عليه في حال التفاهم النهائي ان يفكك ترسانته المسلحة وينهي دوره العسكري. فهو، اي «حزب الله» - وفي رأي المسؤولين الاسرائيليين، لا يستسيغ التزامن بين الترسيمين البري والبحري النهائي بحجم الخلاف القائم بإجماع لبناني «يتلطّى» خلفه الحزب على 13 نقطة برية ومن بينها أم العقد. فهم يربطون النزاع بعقدة هي الأكثر صعوبة عندما يتصل الأمر بترسيم الحدود عند مثلث الأراضي اللبنانية ـ السورية ـ الفلسطينية المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر.

فإسرائيل ما زالت على موقفها من «سورنة الأرض» متسلحة بالنقاش السابق مع السوريين الذي يلحظ احتفاظهم بمثلث المزارع في اعتبارها أراضي سورية تخضع لمقتضيات التفاهم بين الدولتين بموجب هدنة حرب تشرين الـ 1973 عندما رسم خط هذه الهدنة ووضع في عهدة فريق قوات «الإوندوف» بمهمة منفصلة عن قوات «اليونيفيل» على كل المستويات.

وعلى رغم من الإعتقاد انّ المخاوف الإسرائيلية مبنية على الإدعاء بعدم وجود ايّ إقتناع بتسهيل «حزب الله» التسوية الحدودية الكاملة بين البر والبحر فإنّ ذلك ليس كافياً لتبرير الرفض الإسرائيلي. فالإسرائيليون ما زالوا على موقفهم الرافض أيّ دور أو مهمة للأمم المتحدة في مثل هذه الصيغ، وفي اعتقادهم انّ المهمات الموكلة اليها لا تؤهلها لعب الدور المطلوب وانّ تعديلها امر ليس سهلاً على الإطلاق لأنّ فتح باب النقاش في مهماتها وقواعد سلوكها قد يؤدي الى تعقيدات الجميع في غنى عنها حالياً.

فإسرائيل رفضت مبدئياً ايّ وجود لرجال ومراقبي الأمم المتحدة على اراضيها منذ نشأتها وأنّ مهمات «اليونيفيل» كما قوات «الاندوف» على خط التماس في الجولان السوري المحتل خير دليل على ذلك، فوجودهم لا يتخطى الأراضي اللبنانية والسورية لم ولن تسمح اسرائيل لهم أن يدخلوا ولو على شبر واحد من الأراضي المحتلة. 

على هذه الأسس عُلِمَ ان ساترفيلد لن يعود إلى اسرائيل وسيقوم بجولة اوروبية قبل العودة إلى المنطقة ويأتي هذا التطور على وقع المعلومات التي تم تبادلها قبل عودة ساترفيلد إلى بيروت ولقائه بالرئيسين سعد الحريري ونبيه بري والوزير جبران باسيل. 

تبادلت المراجع المعنية في عطلة نهاية الأسبوع معلومات سبقت عودة ساترفيلد الى بيروت تتحدث عن مخاوف اميركية من استمرار وجود تهديد جدي بإمكان خرق «حزب الله» المحتمل لـ«قواعد الإشتباك» المرسومة على طول الحدود الجنوبية في أيِّ لحظة نتيجة ارتفاع منسوب الضغوط عليه وعلى ايران. كذلك بالنسبة الى المخاوف من استهداف المصالح الأميركية على غرار أحداث بغداد على رغم من الخصوصية التي ما زالت تفصل الساحة اللبنانية عن الساحات السورية والعراقية واليمنية وما تشهده من مظاهر التوتر بين الطرفين.