المواجهة المباشرة بين مجلس القضاء الأعلى ونحو الـ250 قاضياً بدت مباشرة بعد الجمعية العمومية التي دعا اليها رئيس المجلس القاضي جان فهد نهاية الأسبوع الفائت، والتي تمّ خلالها عرض موسّع للمستجدّات الأخيرة التي توصّل إليها المجلس.. حسب الوقائع، الجلسة كانت عاصفة، كرّر خلالها فهد الوعود التي حصل عليها من المرجعيّات السياسية. وأكّد معه رئيس مجلس إدارة صندوق التعاضد القاضي علي ابراهيم، أنّ مالية الصندوق في حال جيدة ولن تتأثّر سلباً بالاجراءات التي يتضمّنها مشروع قانون الموازنة .
 

لم تلقَ هذه الوعود والتطمينات أي تجاوب من القضاة، الذين اكّدوا انّ امتهان كرامتهم واستقلاليتهم هي المسألة الأهم. وتوقف هؤلاء عند الوعود بعدم التعرّض لاستقلالية القضاء، بالإشارة الى أنّها سبق وأُعطيت في السنوات الثلاث الماضية ولم يتمّ احترامها. إضافةً الى أنّ القاضي ابراهيم صرّح وفي أكثر من مناسبة خلال العام المنصرم، عن وجود مشكلة كبيرة تعاني منها مالية الصندوق، الأمر الذي يتعارض مع ما صرّح به خلال الجمعية العمومية. 

وتشير مصادر قضائية متابعة، أنّ القضاة المعتكفين، هم غالبية قضاة العدلية الذين فقدوا الثقة بطروحات المجلس ويفضّلون الانتظار إلى حين إحالة مشروع قانون الموازنة الى مجلس النواب.

وترجّح تلك المصادر سبب فقدان الثقة الى التردّي في أداء الإدارة القضائية خلال السنوات المنصرمة، فيما خوف القيّمين عليها من استبدالهم بقضاة آخرين، وهو الأمر الذي يدفعهم دائماً إلى تقديم التنازلات تلو التنازلات، الأمر الذي أفقد القضاء هيبته ووقاره. وقد توقّفت هذه المصادر أمام مضمون البيان الصادر عن مجلس القضاء الأعلى عند انتهاء الجمعية العمومية، معتبرةً أنّ المجلس تقصّد إظهار نفسه بريئاً «ممّا يقوم به القضاة المعتكفون، الأمر الذي سيؤدي الى تشويه صورة الحراك القضائي لدى الرأي العام على قاعدة «وشهد شاهد من اهله».

فهد: إنتظروا وبعدها اعتكفوا

في المقابل، يستغرب القاضي فهد إصرار بعض القضاة على الإعتكاف قبل إقرار الموازنة، وقبل التأكّد من صحة الوعود التي اكّدها له مراراً الرؤساء الثلاثة. وفي حديثه لـ»الجمهورية» كشف فهد، انّ لقاءً جمعه مع وزير المالية علي حسن الخليل، في الإفطار الذي دعا اليه رئيس الحكومة مساء الجمعة الفائت، أي بعد دعوته القضاة صباح الجمعة للجلسة العمومية. وأكّد له خليل عدم نيّة الحكومة المساس بحقوق القضاة، وإدراج مطالبهم في مشروع الموازنة.

كما كشف فهد عن محضر الجلسة التي وضع فيها القضاة أمام ضميرهم المهني والإنساني، لاسيما بعد الضمانات والتأكيدات التي حصل عليها والتي اصبحت حقيقة مُدرجة في البيان الوزاري وفق تعبيره. فطالب فهد القضاة بالعودة الى ضمائرهم المهنية والإنسانية والوطنية وبمتابعة عملهم بانتظار الموازنة والعودة عن الإعتكاف، لأنّهم يحمّلون المواطن الثمن كما يحمّلونه أعباءً غير مسؤول عنها، متسائلاً: «لماذا الإعتكاف قبل صدور الموازنة؟ ولماذا الإفتراض ومحاسبة الحكومة من الآن وهي لم تتخذ اي قرار بعد؟ وما ذنب المواطنين الذين ينتظرون متابعة قضاياهم؟». 

وذكّر فهد بقانون العمل الذي يقضي بوجوب الرجوع الى الحوار قبل اللجوء الى الإضراب مباشرة، شاجباً القرار المتسرّع لبعض القضاة، ومتسائلاً: «على أي أساس»؟ 

كما لفت فهد الى أنّ الموازنة ما زالت مشروعاً، أي هي حتى الساعة بمثابة «مشروع موازنة» سيتم إرساله لاحقاً الى لجنة المال والموازنة، وسيستغرق بحثه ثلاثة أو أربعة أسابيع. مطالباً القضاة الإنتظار الى حينها لتتضح أرقام الموازتة، وللتأكّد من إدراج مطالبهم ضمنها، فيبنى على الشيء مقتضاه، فيعتكفون عندئذٍ ويُضربون اذا لم يتم إنصافهم! منبّهاً القضاة الى دورهم وإلى المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم، وهي مسؤولية وطن، والى دقّة مهمّة القاضي، فهو ليس بموظف عام عادي، بل هو شخص دقيق المسؤولية، فيما الشق الأهم في مهمّته بأنّها رسالة، أي أنه يحمل رسالة إحقاق الحق في القضاء. موجّهاً سؤالاً مباشراً الى القضاة المعتكفين: «من هم المواطنون الذين يلجأون الى القضاء غير الذين اغتُصبت وانتُهكت حقوقهم وأُكِلَت ...وهل يخذلهم القضاء أيضاً ويطلب منهم الإنتظار للبت في قضاياهم حتى إشعار آخر؟».

لكن مصادر بعض القضاة المعتكفين، تعتبر أّن هذا التموضع الجديد للمجلس الأعلى للقضاء من شأنه أن يبيّن عمق الهوّة الموجودة اصلاً بينه وبين القضاة المعتكفين، الذين بدأوا ينظرون بعين الريبة الى مساعي المجلس لإقناعهم، وفق تعبير المصادر نفسها، بما هو معروض بدل السعي إلى إيصال مطالبهم والعمل على تحقيقها. 

وفق ما تقدّم، تبدو الصورة في العدلية ضبابيّة، كذلك صورة القضاء التي تنعكس بضبابيتها على صورة «العهد الإصلاحي». فيما يبدو عمل القضاء برمّته مأزوماً عملياً بسبب علاقة إدارته بأفراده وبانتفاء وجود نوايا ظاهرة وواضحة لتعزيز استقلاليته. كذلك تظهره تلك الصورة المشوشة متخماً بالأثقال الكثيرة الملقاة على كاهله.