تلاحقت الأزمات والحروب في منطقة الخليج منذ بداية الثمانينات، وواجه الأمن القومي للدول العربية المعنية اختبارات متنوعة، وحاليا يتعاظم التحدي على ضوء التطورات التي شهدها الأسبوع الماضي من الاعتداء على السفن التجارية قبالة ميناء الفجيرة، إلى استهداف منشآت النفط السعودية.

أيا كانت السيناريوهات في وضع فيه كثير من التهويل وتصعيد في التوتر واحتمال محدود في الانزلاق إلى حرب خاطفة أو مواجهة شاملة، فليس هناك ما يطمئن في الأداء الأميركي إزاء التجرؤ الإيراني على الاستفزاز وضرب الجوار بشكل مباشر أو عبر أدواتها ووكلائها وخلايا الإرهاب النائمة التي تأمرها طهران أو تتبادل معها الخدمات. وما يزيد من الحذر أن أطراف اللعبة الدولية التنافسية فوق بحيرة النفط العالمية وممرّ الطاقة الرئيسي لا يأخذون بعين الاعتبار المصالح العربية ويتغاضون، بشكل أو بآخر، عن الدور الإيراني المزعزع للاستقرار والمهدد لشريان الاقتصاد العالمي.

من هنا تعتبر الأشهر القادمة مرحلة حساسة، لأن إيران ستعمل من الآن إلى يونيو 2020 (موعد بدء الحملة الانتخابية الرئاسية في واشنطن) على كسب الوقت بالابتزاز أو بالتفاوض “المسرحي” مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، إن بشكل مباشر أو عبر وسطاء من وراء الكواليس، وذلك للحفاظ على مكاسبها ومنع الانفجار الداخلي. وهذا يعني استمرار الانكشاف الاستراتيجي العربي في ظل التهديد المتمادي من على الضفة الأخرى للخليج إلى اليمن ومجمل المشرق.

لذا يطرح البعض أهمية قيام منظومة أمن إقليمية (دون الاستغناء عن رافعة مجلس التعاون الخليجي) ويمكن أخذ “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا” التي تأسست وفق مسار هلسنكي عام 1973 في عز الحرب الباردة كنموذج لإمكانية تنظيم الاختلافات واحترام المصالح وسيادة الدول. لكن الوصول إلى ذلك دونه عقبات كأداء أبرزها طبيعة النظام في طهران ودائرة صنع القرار فيه، وبناء على التجارب السابقة للمملكة العربية السعودية معها منذ حقبة علي أكبر هاشمي رفسنجاني إلى حقبة محمود أحمدي نجاد.

ولذلك فإن العلاقة الإلزامية والحيوية مع واشنطن، بالرغم من تقلبات الإدارات وخصوصية ظاهرة ترامب، ليست كافية لتأمين ضمانات آنية ومستقبلية، ويستلزم الوضع تطويرا في تنويع العلاقات مع اللاعبين الدوليين الأساسيين من الصين إلى روسيا والدول الأوروبية والآسيوية الفاعلة، من أجل نسج شبكة أمان لأن المسألة لا تخص قط الدفاع عن دول بعينها، بل تمس الاقتصاد والأمن العالمي.

دفع العرب أثمانا باهظة من “حالة الحرب الدائمة” التي تسود عمليا منذ حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية- الإيرانية بين 1980 و1988) إلى حرب الخليج الثانية (1990 -1991) إثر غزو الكويت، وحرب الخليج الثالثة في العام 2003 إثر الحرب على العراق وما تلا ذلك، وصولا إلى تفاقم التدخل الإيراني في العالم العربي وأزمة الملف النووي الإيراني والحرب ضد الإرهاب بعد نشأة تنظيم داعش في 2014 وكذلك الحرب اليمنية في السنوات الأخيرة.

خلال مرحلة طويلة منذ الستينات على الأقل، ارتبطت السياسة الخارجية الأميركية بالثوابت الآتية؛ حماية دولة إسرائيل وتأمين تدفق واردات المحروقات وحديثا الحرب ضد الإرهاب. وأتى تقييم إدارات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بالانسحاب تدريجيا من المنطقة نظرا للاكتفاء الأميركي بعد إنتاج الغاز والنفط الصخري، ولأن المسرح الأساسي لإعادة تركيب النظام الدولي يستدعي وجودا أقوى في آسيا والمحيط الهادي. وفي هذا الإطار كما في التفاوض مع إيران على الملف النووي جرى إهمال أو تغييب الأطراف العربية المعنية.

لم تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر بالنسبة لصاحب القرار في واشنطن الذي اضطر أو ارتأى -بعد إتمام الانسحاب العسكري من العراق في 2011- إعادة الانتشار في صيف 2014 لمحاربة الإرهاب، وسرعان ما امتد ذلك إلى بعض المناطق في سوريا وتعزيز هذا الوجود في الكثير من البلدان.

 وأدى ذلك إلى استمرار الانخراط الأميركي، ولكن ليس بالضرورة بنفس الزخم، إذ في مجمل الحصاد لحروب الولايات المتحدة لم تدعم واشنطن هيمنتها وصدقيتها بشكل مديد، بينما كسبت إسرائيل وإيران وتركيا من انهيار النظام الإقليمي العربي، واستخدمت واشنطن الهواجس العربية واستثمرت في الضعف العربي البنيوي. بالطبع هذا لا يلغي المسؤوليات الذاتية ويفرض إعادة ترتيب الأوراق العربية وما تبقى من عناصر القوة اقتصاديا واستراتيجيا وسياسيا، قبل فوات الأوان حتى لا تكون الأطراف العربية الخاسرة فعليا في حالات الحرب والسلام أو اللاسلام واللاحرب.

يتساءل البعض، عن حق، هل يخدع ترامب العرب؟ ويعود البعض الآخر إلى ترديد نظريات “تآمر” أو “تواطؤ” الجميع من غربيين وفرس وإسرائيليين ضد العرب. لكن القرار السياسي يتوجب أن يستند إلى جملة معطيات واقعية عن فهم موازين القوى العالمية وأولوية المصلحة الوطنية وربطها بالتحالفات الفعالة والاستثمار في المكان المناسب، لأن الدول سواء كانت كبرى أو متوسطة أو صغرى، ليست جمعيات خيرية وهي تلعب من أجل مصالحها في المقام الأول.

إزاء التصعيد الدائر على ضفاف الخليج يبرز حذر أوروبي من مخاطر اندلاع نزاع واسع نتيجة سياسة حافة الهاوية وإمكانية اندلاع حرب غير مقررة نتيجة خطأ في التقدير أو بعد تهور إيراني مباشر أو عبر الوكلاء ردا على ما تعتبره محاولة خنق اقتصادي تمارسه واشنطن.

ويضاعف القلق الأوروبي أسلوب ترامب في التصعيد والتفاوض، إذ يقول مصدر فرنسي “حتى الآن فشلت طريقة التفاوض مع كوريا الشمالية والصين، أما مع إيران فإن السقف العالي للمطالب يقلص هامش المناورة، لأن التفاوض العقاري في نيويورك يختلف عن التفاوض مع الدول”. ويرافق هذا التشكيك تخوفٌ من اهتزاز الاستقرار الإقليمي والدولي.

بيد أن أوروبا “القطب الدولي الخاسر إزاء دومينو ثلاثي أميركي- صيني- روسي” وجدت نفسها ما بين المطرقة الأميركية والسندان الإيراني منذ الانسحاب الأحادي الأميركي من الاتفاق النووي، وفشلت الآن في منع إيران من بدء التملص من الاتفاق النووي، وقد استدعى كل ذلك بدء تحييد روسيا عمليا لنفسها من خلال تصريح الرئيس فلاديمير بوتين عن عدم الاستعداد للعب دور فرقة الإطفاء في السجال الأميركي- الإيراني.

أما طهران ومن خلال جولة محمد جواد ظريف إلى اليابان والهند والصين، فتسعى بعناء لعدم تضييق الخناق الاقتصادي عليها. وتتحدث على لسان مرشدها عن عدم وقوع الحرب وترفض التفاوض حتى الآن. إن ذلك يقود إلى مأزق التوتر المستديم وحالة الحرب من دون حرب، ويستمر استنزاف الطاقات العربية في حروب وكلاء إيران، وستكون أي مواجهة على أرض العرب وعلى حساب شعوبهم ودولهم.

منذ قرار وقف التصدير الجزئي للبترول العربي إثر حرب عام 1973، قررت واشنطن وضع هذه المنطقة على قائمة أولوياتها، وصولا إلى دخول بغداد في 2003. وارتبط ذلك بالملف العربي- الإسرائيلي من “كامب ديفيد” إلى مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو. وهذه المرة يجري ربط المواجهة المقننة مع إيران، أو التخفيف الشكلي لنفوذها بما يسمى إطلاق “صفقة القرن”، أي تصور فريق ترامب للحل النهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. إنه منعطف حساس إذ أن الاعتراض الأوروبي غير مؤثر ومن على رؤوس الشفاه، بينما توجد اتصالات أميركية- روسية- صينية لبلورة توافق حول الموضوع وتوزيع المصالح ومناطق النفوذ.

يضع هذا التصعيد الخليج العربي على صفيح ساخن ويزيد من التحديات لأمنه الاستراتيجي في هذا المنعطف الحرج، حيث يتوجب التذكير بأن نهاية الحرب الباردة تزامنت مع حرب الخليج الثانية وتأكيد الأحادية الأميركية، فهل يقود التصعيد الحالي إلى تشكيل الثلاثي الدولي الأقوى من دون حرب، أو يستدعي الأمر مواجهات متفرقة وتنفيس الاحتقان لتسهيل ترسيم الحدود والصفقات.