كان صدى صوت أجراس الكنائس يتردّد بين الجبال. وامتد من الوديان والجبال إلى كل القرى المحيطة بالشوف من جزين إلى إقليم الخروب. ظننا أن قوة الصوت هي من عرس في إحدى البلدات القديمة. إذ لم نكن نعرف يومها غير كنيسة القديسة تقلا، العملاقة والتاريخية، في ساحة بلدة بكاسين بقضاء جزّين. لم تكن أجراس تلك الكنيسة، هي التي تدقّ. وكنّا حينها أطفالاً، نلهو على كتف بلدة صغيرة إسمها بنواتي في قضاء جزين. يطلّ الكتف على مرج بسري الشهير، الذي سيتحول إلى سدّ يعدم الطبيعة ويمحو جمالها. كان دوي الصوت يتردد من ذلك الوادي السحيق، الذي يفصل بين قضاء جزين والشوف. مسافة خطّ النار، تسمح للناظر بأن يرى مواكب السيارات، لا أن يسمع فقط أصوات الأجراس.

ما بين جزين والشوف

اختلطت أصوات الأجراس مع أبواق السيارات وأبواق "الخطر" المطلقة العنان، لتشدّ انتباهنا وحيرتنا مما يحدث. فنحن لم نعتد على سماع أصوات كهذه طيلة الأشهر السابقة، منذ الانسحاب الإسرائيلي من جزين عام 1999، ومن الجنوب كلياً عام 2000. كان يومها الخامس من آب 2001. كنت في الثانية عشرة من عمري، في ملعب مدرسة القرية، المقفلة منذ سنوات. الملعب المطلّ على طريق باتر جزّين، ذاك المعبر الشهير الذي نفّذت فيه "زوبعة باتر" سناء محيدلي عمليتها الاستشهادية، والتي نشأنا على سماع سيرتها، كلّما مررنا على ذلك الطريق ذهاباً إلى بيروت أو إياباً منها، فأثناء الإحتلال كانت طريق الشوف وحدها المتاحة باتجاه العاصمة.

امتدّ "حبل" السيارات على طول طريق باتر جزين، ليأتي الجواب على الحيرة، أن البطريرك الماروني نصر الله صفير، يزور وليد جنبلاط في المختارة. يومها لم نكن نعي من السياسة  سوى سناء محيدلي، وعمليات "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" ضد الإحتلال الإسرائيلي، ثم عمليات "المقاومة الإسلامية" التي كنّا نتحمّس لها لتحرير الجنوب، ونركض خلف أصوات الإنفجارات وعمليات الإغتيال التي كانت تستهدف سيارات العملاء. كنا نعرف أيضاً قصر المختارة ووليد جنبلاط، حافظين في الذاكرة الموقف التاريخي الذي اتخذه الرجل، كما والده الشهيد كمال جنبلاط، مع زعيم من جزّين اسمه جان عزيز، لحماية البلدة السنية الوحيدة في محيط مسيحي، بلدتي بنواتي. موقف المختارة كان حاسماً منذ العام 1976، لحماية البلدة وأهلها من التهجير، خصوصاً بعد التخوف الذي ساد في تلك الفترة، على إثر مجزرة العيشية، أن يتم تهجير أهالي بنواتي إلى العيشية التي تقع في محيط مسلم، واستقدام أهالي العيشية بدلاً منهم إلى المحيط المسيحي. يومها، تدخّل كمال جنبلاط مع جان عزيز لحماية القرية الصغيرة، وبعدها أيضاً حافظ وليد جنبلاط على حمايتنا في منازلنا. وللأمانة التاريخية أيضاً، كان أهالي البلدات المجاورة من رافضي أي مساس بأبناء تلك البلدة "المسلمة". فتوّلت مجموعات منهم الدخول إليها ليلا وحراستها من أي إعتداء.

من المقاومة إلى المصالحة 

يوم أصداء أجراس الكنائس ذاك، كان هو يوم مصالحة الجبل. هكذا، تعرّفنا إلى إسم "سياسي" جديد هو البطريرك مار نصر الله بطرس صفير. وكنّا قد خرجنا لتوّنا من حالة الإحتلال، فكنّا مهجوسين ونحن صغار، بقراءة تجربة المقاومة. كان أول كتاب قرأته في السياسة، هو كتاب محمود غزالة عن عملية خالد علوان في الحمراء، عنوان الكتاب: "على رصيف الويمبي، وقفات عزّ أخرى". فبدأ الأفق السياسي لديّ بالاتساع، من تجربة المقاومة إلى معنى المصالحة، والتي تحدث بعد سنوات على حروب شهدها جبل لبنان بين الدروز والمسيحيين.

تلك المناسبة الغامضة بالنسبة إلى من هم في أعمار بين الطفولة والمراهقة، والتي اتخذت شكل أعراس القرى وأهازيجها، شكّلت بداية التكوين السياسي في اللاوعي. الانتقال من المقاومة إلى المصالحة، كان تحوّلاً لم نكن قادرين على فهمه يومها. لكّنه على غموضه وبساطته انحفر في الذاكرة وفعل فيها أفاعيله، والذي سرعان ما ستنميه أحداث أخرى مشابهة، توالت على امتداد السنوات اللاحقة. 

الزلزال

من العام 2001 إلى العام 2004، حين وقعت محاولة اغتيال مروان حمادة، سمعنا أن الحادثة هي "رسالة إلى رفيق الحريري ووليد جنبلاط". لم نكن نعرف كيف أن "الرسالة" تكون عملية تفجير. عندها، كان لا بدّ من ملاحقة الأسئلة والبحث عن إجابات عليها . لجأنا إلى نشرات الأخبار التي لم تكن كثيرة في تلك الفترة كما هو اليوم، بمعدّل ثلاث نشرات يومياً على الأقل. كنّا نعرف نشرة الأخبار المسائية لا غيرها، وأدمنّاها. تخطت همومنا معرفة معنى "الرسالة" وأسبابها، إلى الخوف من تجدد الحرب الأهلية. خوف ترسّخ أكثر يوم زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي رمانا في دوامة السياسة وعناوينها، لننشغل في تحصيل وعينا السياسي الجديد. وعي جيل كامل قام على تلك الواقعة.

مع تسارع الأحداث، بدأ الربط ما بين الوعي واللاوعي، والرجوع إلى اللحظة التي كنّا نلعب فيها حين سمعنا صوت الأجراس. لحظة مصالحة الجبل، التي وُصفت في العام 2005، أنها هي التي مهّدت لهذا الزلزال، وما تلاه من تظاهرات أُطلق عليها انتفاضة الاستقلال أو "ثورة الأرز". كان لا بد من العودة إلى زمن المصالحة، والانتباه إلى ما لازمها وجاورها من "لقاء قرنة شهوان"، و"بيان المطارنة الموارنة"، والحديث عن سعي النظام السوري لضرب رموز المعارضة الناشئة ، إما وليد جنبلاط  أو رفيق الحريري.

بذرة الحماسة بدأت بالنمو في دواخلنا، لتتحول السياسة معها من هواية معرفية إلى قضية والتزام. بعدما كانت تشغلنا قضية واحدة ومركزية هي المقاومة. وعندها بدأت تنازعني الأفكار والأيديولوجيات، ما بين "سوريا للسوريين والسوريون أمة تامة" ومقولة "الزعيم" أنطون سعادة، بأن "الدماء التي تجري في عروقنا ليست لنا إنما هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها".. وبين مقولة رفعها البطريرك نصر الله صفير: "إذا ما خيّرنا بين الأمن والحرية نختار الحرّية"، و"عبثاً نحب الوطن اذا كنا لا نحب المواطنين الساكنين فيه". وقوله الآخر: "لتبقى لنا الحرية التي إذا عدمناها، عدمنا الحياة". الفارق جذري بين الدماء فداء للأمة والزعيم، وبين حبّ الوطن ليس للوطن بل لمواطنيه. هذا التشكّل السياسي تدعّم مع قراءات لكمال جنبلاط، عن واجب الدولة في خدمة الإنسان لا العكس.

انكشاف الحقائق والأكاذيب 

هنا حصّل التحول الفكري، من الأمة التامة القائمة على نظرية العرق السوري، إلى إعلاء إنسانية الإنسان، التي تقوم على مرتكزين أساسيين، الحرّية، والمواطنية العابرة للطائفية أو المذهبية. وربّما من الواجب الذهاب أبعد من ذلك، إلى رحابة "إسقاط جواز السفر" على ما يقول محمود درويش.. تتشكّل تلك التسوية الوجدانية ما بين المقاومة، والحرية، والمواطنية الإنسانية بلا تناقض.

في تلك السنة المصيرية انشقّ لبنان عمودياً. علت اتهامات التخوين بالعمالة والعمالة المضادة. مجموعة عملاء للغرب، وفق منطق النظام السوري وحلفائه، ومجموعة عملاء للنظام السوري وفق منطق الفريق الآخر. عندها أيضاً، كانت العودة ضرورية إلى حقبة التسعينيات، لنكتشف سر "التكامل" ما بين الإحتلال الإسرائيلي ونظام الوصاية السوري. فانسحب الإسرائيليون، وكان لا بد من انسحاب السوريين، الذين رفضوا ذلك، إلى جانب وقائع أخرى، كرفض انتشار الجيش في الجنوب، والموقف السوري المدوّي في لحظة الإعلان الإسرائيلي عن الانسحاب من جنوب لبنان في العام 2000، إذ اعتبر وزير الخارجية السوري يومها فاروق الشرع أن الانسحاب "مؤامرة على لبنان وسوريا معاً". ما يشي في مضامينه إلى علّة وجود النظام الأسدي في لبنان واتساقه مع وجود الاحتلال.

تلك المعادلة لا تنفصل عن أحداث أخرى كنّا قد سمعناها في الصغر، حول الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وتحديداً في منطقة جزين ومحيطها، حين عملت القطعات السورية قبل ساعات قليلة من الانسحاب، إلى تبديل القوات العسكرية، فتم سحب من كانوا منذ فترة في المنطقة وخبروا طرقاتها وتضاريسها، مقابل استقدام أفواج جديدة، كانت كحال أبناء عكار الذين استقدمهم "تيار المستقبل" في أحداث السابع من أيار 2008 إلى بيروت، وسُلّم كل واحد منهم عصا، للدفاع عن العاصمة ومواجهة حزب الله في زواريب لا يعرفونها. أسهم تبديل أفواج الجيش السوري، بوقوع مجزرة بالقوات الجديدة، وعملت الدبابات الإسرائيلية على اصطيادهم كالعصافير.

في وداع البطريرك 

اختطلت مقارنة أحداث العام 2005، وتعاطي النظام السوري مع لبنان، مع تلك الأحداث التاريخية، ومنهما اتساعاً نحو البحث عن أسرار التكامل بين الاحتلالين السوري والإسرائيلي، نسبة إلى "إتفاقية الخط الأحمر" التي نسجها وزير الخارجية الأميركي هنري كسينجر، لترسيم حدود السيطرة الإسرائيلية على جزء من الجغرافيا اللبنانية، وحدود السيطرة السورية على جزء آخر، ربطاً بمعادلة حافظ الأسد حيال خسارة الأرض (إشارة إلى الجولان) مقابل بقاء النظام. وأبعد من ذلك، حول الترابط بين الإلتقاء الإسرائيلي والسوري على ضرب منظمة التحرير الفلسطينية والحركة والوطنية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وضرب كل ما هو وطني أو "يساري"، لصالح تكريس الانقسامات الطوائفية، والتلاعب في ساحاتها.

مثّل البطريرك نصر الله صفير ذروة المعنى الاعتراضي الذي واجه الواقع المرير والرديء، طوال مساره الطويل، والذي حفل بأحداث استثنائية، فشكّل نبراساً لها، وملهماً لتكوين فكرنا السياسي، الذي تجلّى في طروحاته من قرنة شهوان إلى البريستول وما بينهما بيان المطارنة ومصالحة الجبل.

بوداع البطريرك ينسلخ شيء منّا ويأفل، ونختم معه ذاكرة تكوّن وعينا السياسي. ليبقى صوته كصدى يتردد في جبال لبنان ووديانه.