على ترانيم مجد لبنان أعطي له ورائحة البخور، فاح عطر بطريرك القضية اللبنانية في ساحات بكركي الشاسعة أمس، وفي نعش متواضع حُمل جثمانه على الأكف وجال متفقداً الحشود التي بَكّرت لملاقاته ساحلاً وجبلاً، حباً وامتناناً ووفاءً... فمنحهم بركته الوداعية. لكنّ القبلة الوداعية الثمينة احتفظ بها حامي الكنيسة المارونية للمذبح الأحبّ الى قلبه، والذي أقسم بتكريس ذاته لخدمته طوال مسيرته الكهنوتية، فكان وفيّاً للقسم وعاد في يوم الحساب يعدّد أمام خالقه «غلّةَ» الوزنات التي حققها، ويكتفي في المقابل بقبلة وداعية لهذا المذبح وفاءً للعهد الذي قطعه على نفسه... قبلة أخيرة هي بنظره أثمن بكثير من المجد الذي أعطي له.
 

ولو قدّر لبطريرك المصالحة أمس أن يكون حاضراً بالجسد لكانَ وزّع قبلات وطنية لجميع الحاضرين والأوفياء لوصيّته، ولكان شهد بأم العين كيف أثمرت وزناته فجمع لبنان في صرحه واجتمع الحلفاء والخصوم، وربما أبرزهم القادة المسيحيون الذين جهد لجمعهم فكان له ما تمنّاه، فحضروا وأقاموا الصلاة لراحة نفسه جنباً إلى جنب.

لم تمنع الشمس الحارقة أحباء البطريرك صفير من الصعود باكراً الى بكركي، فبعضهم التزموا بالتعليمات وصعدوا بالباصات المنتشرة في نقاط عدة، وبعضهم الآخر فضّلوا الصعود سيراً على الأقدام، وحين كنّا نسألهم عن السبب كانوا يجيبون: «أقل ما نقدّمه لمَن قدّم لنا مسيرة حياة، مسيرة يوم واحد له في يوم الوداع».

مثلهم مثل الوافدين من قرى البترون والشمال وعكار والمدن الساحلية مسلمين ومسيحيين، وقد اكدوا لـ»الجمهورية» انّ مأتم بطريرك الاستقلال هو مأتم لجميع اللبنانيين وليس للمسيحيين فقط. 

في المقلب الآخر يتأمّل الوافدون من جميع المناطق اللبنانية الساحات في بكركي مُستذكرينها في الماضي، مشيرين الى انّ البطريرك صفير هو بانيها، ومؤكدين أنه لم يكن فقط بطريرك المصالحة بل أيضاً بطريرك المؤسسات، إذ انه اشتهر ببناء الحجر أيضاً.

قرابة الساعة الخامسة امتلأت الساحة بالوفود السياسية والإجتماعية والدبلوماسية والشعبية والأمنية والكشفية، وغصّت ساحة بكركي الخارجية بالحشود.
وفي تمام الرابعة والنصف، نقل جثمان البطريرك صفير الى نعش يرمز الى حياة التجرد والنسك، وانطلق موكب الجثمان الذي حمله المطارنة يترأسهم البطريرك الراعي مُحاطاً بالأساقفة باتجاه الساحة الخارجية، ووسط التصفيق والترانيم شَق طريقه بين الجموع ووضع على المرتبة السماقية مع عصاه الى جانبه، ووضع خلفه 5 أكاليل من الزهر علامة جراح المسيح الخمسة، و12 مزهريّة تيّمناً بتلاميذه الـ ١٢.

بعد وصول الرئيسين بري والحريري بدقيقتين، وصل رئيس الجمهورية للمشاركة في مراسم وداع البطريرك. في موازاة ذلك، ترأس البطريرك الراعي مراسم الوداع الأخير للبطريرك صفير وأعلنه عميد الكنيسة المارونية وشفيعاً للبنان، وقد قرعت الأجراس تزامناً في الديمان ووادي قنوبين وجبة بشري.
مراسم الوداع التي استمرت ساعة ونصف من الوقت، تُليت فيها صلوات خاصة أبرزها كانت عظتين، الاولى مطوّلة للبطريرك الراعي عَدّد فيها مآثر البطريرك الراحل وتاريخه الحافل بالإنجازات الوطنية والدينية، والثانية كلمة للبابا فرنسيس ألقاها باسمه الكاردينال ليوناردو ساندري.

امّا الخطوة المعبّرة اللافتة فكانت خلال المراسم، حين حمل عدد من المطارنة والكهنة النعش وداروا به 3 مرات حول المذبح، وفي الدورة الثالثة يلطم رأس النعش المذبح لتكون القبلة الأخيرة له. بعد مراسم الوداع، منح الرئيس عون البطريرك صفير الوشاح الأكبر من وسام الإستحقاق اللبناني، وسط تصفيق الحاضرين.

وعلى ترانيم أصوات جوقة جامعة الروح القدس المرنّمة «مجد لبنان أعطي له» تبجيلاً، رفع النعش مجدداً على الأكف ليجول بين الحضور قبل أن يدخل مدافن بكركي، وبالرغم من عبوره الأخير لم يتوقف الحضور عن التصفيق لكنّ البطريرك مار نصر الله بطرس... كان قد «قال كلمته ومشى».