في لحظة مهيبة وتاريخية تهافتَ اللبنانيون بشوق ولهفة لملاقاة جثمان سيّد المقاومة الأول وحارس الحرّاس في يوم مولده. وقد شاء القدر أن يكون لقاء البطريرك مار نصرالله بطرس صفير مع أحبّته في اليوم الذي يصادف الذكرى المئويّة الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، ليصح القول «الكبار تلاقي كبارها». إذ بَدت الشهادات في مسيرة قرن لبطريرك الإستقلال لافتة وبليغة، خَلّدَت «بطرك الموارنة» الإستثنائي الذي سينصفه التاريخ ان كُتِبَ بحبرٍ أبيض.
 

إحتار اللبنانيون أمس كيف يناجون بطريركهم، «صخرة بكركي» والاستقلال والمصالحة بالدعاء ام بالترانيم، بالنحيب أم بالتهليل والزغاريد. إحتارت الجموع كيف تلاقيه وكيف تفيه الوفاء... لكن، «بطرس لبنان» «ونصره الأبدي» لم يتأبّط هذه المرّة يد البابا القديس بولس الثاني ليلوّح للمؤمنين بيده الحازمة وببسمةٍ قُدسيّة، بل ارتفع جثماناً من صخر وزيتون معتّق يابس تَعانَق معه صخر بكركي ووادي قنوبين وعلى أكتافٍ صلبة، فحمل نعشه الذي يزن 220 كلغ الأساقفة والرهبان والمطارنة بعد ان أُقيمت الصلوات وتمّ رفع البخور عن روحه في المستشفى الذي احتضن جثمانه منذ اسبوع.
مرفوعاً الى الأعلى مُقبّلاً السماء طافَ جثمان مار نصر الله بطرس صفير بجولة تبريكية أرضية ووداعية سماء لبنان، ملوّحاً هذه المرة الى اللبنانيين بقلبه وروحه الطاهرة والمسالمة...

وحتى لو أجدنا التوصيف، يبقى الإحساس بالعين المجرّدة للمشهدية المهيبة أبلغ بكثير.

نُكّست الأعلام والأعناق وسار الجثمان ببطء... من اللبنانيين من اختنق حزناً ومنهم من اكتفى بالصمت المعبّر غير راغب بالكلام. لكن الصمت الذي أتقنه الراحل الكبير لم يمنع البعض من إيقاف الموكب في محطات عدة خارقاً التعليمات... وعلى امتداد مداخل الطرقات، فكانت الأشرفية كالعادة هي البداية، ومن هناك وصولاً الى الدورة والى بكركي، بَكاه اللبنانيون ورُفعت شعاراته على اليافطات وصوره العملاقة على جوانب الطرقات، فيما توقف الموكب في محطات عدة أبرزها الدورة، انطلياس، جلّ الديب، نهر الكلب، ذوق مكايل، صربا وفؤاد شهاب. وفي كل محطة نُثرت عليه الورود التي امتزجت مع الهتافات وزغاريد المؤمنين وصيحاتهم. وكان الملقى من قِبل مختلف البلديات الممتدة الى بكركي حافلاً، فشاركت بلديات برج حمود على مدخلها وبلديات المتن في نهر الموت تحت جسر المشاة، كما شاركت بلدية ذوق مكايل مقابل كنيسة سيدة النجاة، هذا بالإضافة الى التجمّع الشعبي الكبير على مدخل مجمّع فواد شهاب.

شهادات تقدير بالآلاف

تقول إبنة كسروان، التي رفعت راية غوسطا وريفون بلدتي أمه وأبيه: «فقدَتْ هدايا الإكرام قيمتها أمام الأيقونة الخالدة التي تجسّدت في هامته الجليلة، التي باركت المستشفى التي احتضنتها». فاللبنانيون الذين توافدوا أمس الى الطرقات بمنتهى العفوية والصدق، إختاروا تقديم قلوبهم قرابين وبكّروا فجراً «لغزو الأشرفية على ما يقدّر الله...». فقلوب المؤمنين لم تنم منذ الليل الفائت، وهبّت بالآلاف الى ملاقاة جثمان البطريرك الكبير، بعد ان زاد اشتياقها الى وعظاته ورسائله وحِكَمه وحكمته وحتى صمته إن حكى...
شهادات لافتة بَصمت نهار بطريرك الموارنة، ومن أبرزها تلك التي أعلن فيها احد المواطنين، بعدما قصد المستشفى «للتبرّك من البطريرك وللشهادة»، فقال: «تخاصمت في السياسة مع البطريرك، لكنني اليوم هنا للإعتذار لأنني أسأت به الظن ولم أنصفه، على ان تكون شهادتي هذه عربون محبة واعتذار وهو سيّد المسامحة والمصالحة».
في المقابل، يشهد مواطن من الجموع التي افترشت الأرض بانتظار قدوم الموكب في ساحة جونية منذ الصباح الباكر، أنّ صفير سيبقى بطريركهم المميز، وهو الذي كان مخلّصهم في الايام البائسة.
جميع الذين التقيناهم فجر أمس أكّدوا لنا حاجتهم وشغفهم الى الإرتواء والإستملاء من عنفوان هذه الشخصية التي لن تتكرّر في تاريخ اللبنانيين عموماً والموارنة تحديداً، ولذلك سارعوا لملاقاة بطريرك الاستقلال الثاني مردّدين قوله «رعيتي تسمع صوتي وتعرفني». وهي أمس سمعت روحه فلبّت النداء وسارعت الى التماس البركة الوداعيّة.

الراعي لم يخفِ دموعه

لأكثر من ساعة بقي البطريرك الراعي في الخارج ينتظر وصول جثمان سلفه، غير آبه بشدة حماوة الشمس، يحيط به لفيف من المطارنة والاساقفة والرهبان وممثلي الابرشيات المارونية في لبنان وممثلي الأبرشيات المارونية المنتشرة، التي تمثّلت بالأمس وستكتمل غداً بوصول باقي الأساقفة من الخارج.
توقفت الترانيم فور وصول جثمان الراحل الكبير، وبدأت الأجراس تُقرع حزناً، وعلت أصوات الترانيم ورائحة البخور التي عبقت بها ساحة بكركي الخارجية، فغطّت سماءها، وشقّ موكب الجثمان طريقه محمولاً على أكفّ الأساقفة.
لاحظ الجميع النظرة الاولى للراعي على الجثمان المهيب، وقد اغرورقت عيناه بالدموع ولم يخفها راعي بكركي... إقترب من النعش رافعاً صليبه، بارك سلفه الراحل بكل وقار، مترئساً الموكب ومصطحباً الجموع الى كنيسة سيدة الإنتقال، الكنيسة الصغيرة داخل الصرح، ترافقه زغاريد النسوة وهتاف طلاب المدارس المجاورة والجموع، مترافقة مع لفتة معبّرة من قوى الأمن الداخلي بعزفهم لحن التعظيم كتحية عسكرية للبطريرك صفير فور وصول الجثمان الى بكركي، بإيعاز خاص من مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، علماً انّ لحن التعظيم لا يُعزف الّا لرئاسة الجمهورية وعزفه كان استثناءً خصّصت به المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي البطريرك صفير.

الجثمان يبارك الحشود

وسط التباريك وتراتيل الراهبات سُجّي جثمان البطريرك على منصّة بنفسجية، وهو اللون الذي يرمز الى زمن الصوم والقيامة، وأُلقي رأسه على «وسادة سمَاقيّة» نسبة الى اللون السماقي الذي يرمز الى لون وشاح السيد المسيح مصلوباً على الجلجلة، وقد أحيط بشموع سِت مضاءة نسبة الى رتبته البطريركية.
وفُتحت كنيسة بكركي ابوابها لكافة الوافدين والمرافقين لجثمان الراحل الكبير لإلقاء النظرة الوداعيّة. وتجدر الاشارة الى أنّ اللون السماقي سيكون طاغياً على جُبب الكهنة ومشالحهم في مراسم الجنازة التي ستقام غداً. فيما شهد صرح بكركي أمس حشوداً غفيرة سياسية اجتماعية اعلامية نقابية، وكانت لافتة حركة الوفود الإغترابية التي قدمت خصيصاً للتعزية ببطريرك الإستقلال، الذي طبع في ذاكرتهم على حد قول أحد الوافدين، معنى العودة والإنتماء للوطن مهما تغرّبوا، وجاءوا اليوم «لردّ الجميل ووفاءً لمن ائتمنهم على لبنان ولإلقاء النظرة الوداعيّة وأخذ البركة الأخيرة وائتمانه من فوق على لبنان».
كذلك وصل مساءً الى بكركي عميد مجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ليوناردو ساندري، موفداً من قداسة البابا فرنسيس للتعزية والمشاركة في مراسم التشييع، فيما كان لافتاً الوفد الاردني الذي حضر خصيصاً لتقديم العزاء، برئاسة وزير الأشغال جهاد سويحات ثم غادر الوفد مباشرة الى المطار. وأعلنت السفارة الفرنسية أنّ «وزير أوروبا والشؤون الخارجية جان إيف لو دريان سيتوجّه إلى لبنان اليوم، لتمثيل رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون، في مراسم جنازة صفير».

جعجع: هو يوم الفرح الكبير

أبرز المعزّين في بكركي وفد كبير من «تيار العزم» تقدّمه رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، واصفاً صفير «باللبناني الأصيل»، مضيفاً انّه خلال كل المراحل التي تعاون فيها مع صفير، كان دائماً ثابتاً على موقفه وأصالته ووطنيته، مقدّراً مبدأ تداول السلطة وقبوله التنازل عن سدّة البطريركية، الأمر المهم، والنادر في السياسة اللبنانية والسلوك اللبناني.
كذلك قدّم وزير الاعلام جمال الجرّاح التعازي، معلناً «انّ صفير سَطّر تاريخ لبنان بأحرف من ذهب في مسار السيادة والحرية والاستقلال، فيما أعلنه النائب ابراهيم كنعان من بكركي قديساً يشفع في الموارنة وبكل اللبنانيين في السماء.
أمّا رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، فاختار تعبير «يوم الفرح الكبير» لوصف نهار أمس، «لأنّ البطريرك صفير كان يفضّل دائماً ان يكون في المكان الذي هو فيه اليوم». وقال من بكركي بعد تقديم واجب العزاء: «تجاوب الشعب اللبناني كان نوعاً من الشهادة لكل ما يمثّله البطريرك صفير من الناحية الروحية والبعد الروحي الذي كان يتحلّى به، إذ انّ كل حياته كانت حياة تقشف وزهد، متوقفاً عند صفتين تحلّى بهما صفير، «إفتقدهما معظم السياسيين اللبنانيين، هما الكرامة والعزة الوطنية». طالباً من الرب «مساعدة البطريرك الراعي ليكمل سلسلة البطاركة المقاومين، وآخرهم كان البطريرك صفير، لأنّ المسيرة ليست سهلة».
وتواصل توافد المعزين من دون توقف، فيما تداعت الشبيبة المسيحية في مسيرات شعبية وانطلقت بالشموع من جونية صعوداً للصلاة والتبرك من الجثمان. وكان لافتاً تصدّر النائب شامل روكز وجوان حبيش رئيس إتحاد بلدية كسروان والمطران نبيل عنداري وشوقي الدكاش للمسيرة الليلية، بعد أن افتقدت الشوارع صباحاً لجماهير «التيّار الوطني الحر»، لكنهم توافدوا الى بكركي مساءً منفردين بعد إصدار بيان دعوا فيه للمشاركة الكثيفة في مراسم الجنازة غداً.
تجدر الإشارة الى انّ القداديس والصلوات رافقت الجثمان المسجّى حتى الليل.
يبقى القول، إنّ البطريرك العظيم سيلاقي اليوم أسلافه البطاركة من المعوشي الى خريش والحويّك، وسيرعون من فوق لبنانهم ولبناننا الحبيب. وسيحتفل لبنان المغترب والمقيم اليوم بوداع سيخلّده التاريخ. امّا الراحل الكبير وعلى حد قوله... فقد قال ما قاله ومشى بكل بساطة. ومن له أذنان صاغيتان لعلّه يسمع.