عاجلاً أم آجلا، ستقر موازنة الدولة للسنة الجارية في مجلس الوزراء ثم في مجلس النواب، بعجز مخفوض بنسبة 2,5 في المئة من أصل 11,5 في المئة هي نسبة العجز الفعلية حالياً في هذه الموازنة، وذلك استجابة لمطالب مجموعة «سيدر» وغيرها.
 

تحيّر المعنيون بالموازنة بداية في البحث عن الموارد اللازمة لتحقيق هذا الخفض في العجز، وكانت القمة التي ذهبوا اليها حسم 15 في المئة من رواتب الموظفين الحاليين والمتقاعدين تبقى ديناً في ذمة الدولة لـ3 سنوات، فتعاد بعدها الى هؤلاء الموظفين بمفعول رجعي وفوائد. ولكن قيامة هؤلاء الموظفين قامت في الشارع ولم تقعد، رافضين هذا الحسم الذي بَدت الدولة من خلاله وكأنها تنتزع من لحمها لتطعم نفسها.
ولكن تحت وطأة ضغوط التحركات العمالية والنقابية في الشارع، صرفَ مجلس الوزاء النظر عن هذا الحسم واستعاض عنه بموارد اخرى طامحاً الى ان يُحصّل ألف ومئتي مليار ليرة من شأنها ان تحقق الخفض المطلوب للعجز هذه السنة، على ان يتكرر في موازنات السنوات اللاحقة.

ويقول مواكبون لدرس الموازنة أنّ المعنيين كانوا يدركون مسبقاً انّ خفض الرواتب، او حسم نسَب منها، حتى ولو اعتبر ديناً في ذمة الدولة لأي مدة كانت، لن يكون مقبولاً لدى الموظفين، ولكنهم حاولوا على قاعدة «عسى ولعلّ» ففوجئوا بحجم الحراك العمالي والنقابي في الشارع، والذي تزامن مع ارتفاع منسوب القلق على الوضع المالي العام وعلى قيمة العملة الوطنية وسط إشاعات عن احتمال تدهور سعرها أمام العملات الاجنبية ولاسيما منها الدولار. وقد انعكست هذه التطورات على أجواء النقاشات في جلسات مجلس الوزراء المخصصة لدرس الموازنة، ما دفع المجلس الى صرف النظر عن موضوع الحسم على الرواتب مستديراً الى مجالات أخرى يمكن ان تؤمّن التمويل المطلوب لخفض العجز.

ولذلك، وفي ظل «لائحة الممنوعات» التي وضعها بعض القوى السياسية المشاركة في الحكومة وغير المشاركة في مواجهة «لائحة الحسومات» المقترحة لخفض العجز، بَدت التحركات في الشارع وكأنها كانت خطوات استباقية لقطع الطريق على اي حسومات تطاول رواتب الموظفين والمتقاعدين.
ولكنّ اللافت انّ الاشاعات التي تحدثت عن احتمال انهيار قيمة الليرة امام العملات الأجنبية، ترافقت مع معلومات عن إقدام بعض «كبار القوم» من رسميين وغير رسميين على تحويل ما يملكون من اموال إلى مصارف الخارج خوفاً من هذا الانهيار، ولوحظ انّ هذه الاشاعات انطلقت إثر زيارة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الأخيرة لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون في القصر الجمهوري، وكأنّ مُطلقيها حاولوا الايحاء انّ سلامة نقل الى عون معطيات خطيرة عن الوضع المالي والاقتصادي سرعان ما تسرّبت بعد زيارته الى من يفترض انهم بادروا الى تحويل اموالهم الى الخارج. ولكنّ أوساط القصر الجموري استغربت هذه الاشاعات، وكذلك استغربها سلامة في الوقت نفسه. إلّا أنّ هذا الاستغراب لم يُنه حال البلبلة السائدة في السوق المالية وكذلك في الاوضاع المالية والاقتصادية عموماً.

ورصدت في اجواء جلسة مجلس الوزراء امس انّ المواقف عادت الى التباين إزاء الموازنة، مهددة الاتفاق الذي كان قد توصّل إليه الرؤساء الثلاثة في لقائهم الشهير قبل أسابيع في القصر الجمهوري، ويفترض أن تكون الخلوة التي جمعتهم مساء امس الاول قبَيل الافطار الرئاسي السنوي قد أعادت تأكيده. علماً أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري يردّد انه يتعهّد أن يتم إقرار الموازنة نهاية الشهر الجاري في مجلس النواب في حال أحيلت اليه خلال أيام، إذ في إمكان المجلس ان يعجّل الخطى لإقرارها.
على انّ الاجتماع الرئاسي الشهير قبل اسابيع كان، حسب مطّلعين، قد انتهى الى اتفاق على العناوين العريضة للموازنة لجهة خفض العجز وتحقيق الإصلاحات المطلوبة لمعالجة الأزمة المالية عبر قرارات مؤتمر «سيدر»، وكذلك عبر إجراءات داخلية تُفضي الى إقرار موازنة تستجيب المطلوب لتحقيق المعالجات المالية وتمكّن لبنان من الحصول على مبلغ الـ 11 مليار دولار الذي قرّره المانحون في «سيدر».

ولكن ما حصل من تفسّخ بين القوى السياسية اثناء المناقشة في مجلس الوزراء أمس يطرح تساؤلات كثيرة، منها هل انّ هذا التفسّخ هو من ضمن الهوامش الطبيعية للنقاش؟ ام أنه يعكس وجود «قطب» سياسية مخفية يريد أصحابها إعاقة إقرار الموازنة إن لم يكن منعه نهائياً لغاية في نفس يعقوب؟ بعض المعنيين يقولون انّ الاجوبة عن هذه التساؤلات ستظهر في خلال الساعات الثماني والاربعين المقبلة، فإذا أقرّ مجلس الوزراء مشروع الموازنة قبل نهاية الأسبوع تكون الامور سائرة على السكة المتفق عليها، اما اذا سارت الرياح عكس ذلك فإنّ الامر سيستلزم إبرام «تفاهمات فوقية» جديدة.

ويتساءل كثيرون عن أسباب تأخر بعض الافرقاء في طرح تصوراتهم للمعالجة المالية حتى الساعات الاخيرة التي يفترض انّ مجلس الوزراء سيقرّها فيها، ويتساءل هؤلاء ايضاً كيف انّ أصحاب هذه التصورات لم يطرحوها قبل اسابيع بل منذ ان أحال وزير المال مشروع الموازنة الى مجلس الوزراء، إذ انهم يدركون قبل غيرهم مدى حاجة البلاد الى السرعة في إنجاز الموازنة وإصلاحاتها لتلافي المخاطر الجدية التي تحيق بأوضاع البلد المالية. وفي هذا السياق يرى سياسيون انّ بعض الافرقاء لا يتوانون عن استثمار اي استحقاق او مناسبة، طامحين الى أن تكون لهم «بصمة» في إنجازها ليضيفوها الى ما يعملون على استجماعه من رصيد خدمة لطموحاتهم في الاستحقاقات المقبلة، ولاسيما منها استحقاقي الانتخابات النيابية والرئاسية في ربيع وخريف 2022.

بيد أنّ قطباً نيابياً بارزاً لا يتوقف طويلاً عن «المعوقات» التي تواجه الموازنة، ويقول انها ستقرّ في مجلس الوزراء بخفض للعجز من 11,5 الى 9 في المئة وما دون، ولن يكون هناك أي مساس برواتب الموظفين، إذ صُرف النظر عن اي حسم فيها وكذلك على رواتب المتقاعدين، فالمطلوب هو خفض النفقات الى نحو ألف ومئتي مليار ليرة، وسيتم توفيرها من مجالات اخرى ومنها حسم 10 في المئة من كل صناديق التعاضد، فيما تُرك أمر التدبير الرقم 3 لقيادة الجيش التي ستعمل على إيجاد حل له لا يؤثر على المؤسسة العسكرية.

وفي المعلومات انّ خفض العجز ستتم تغطيته ايضاً من الضريبة على الفوائد والودائع المصرفية، وانّ المصارف وافقت على مد الدولة بديون تتراوح بين 10 و12 مليار دولار على مدى 3 سنوات بفائدة نسبتها 1 في المئة، بحيث انّ هذه المبالغ معطوفة على مبلغ الـ11 مليار دولار الذي ستقدمه مجموعة «سيدر» على مدى 5 سنوات، ستشكّل الضمان للبنان لتمكينه من عبور أزمته الاقتصادية والمالية وملاقاة قطاع النفط والغاز الذي يكون قد بدأ الانتاج في ذلك الحين ليرفد الخزينة بالمليارات من الدولارات سنوياً.

وفي هذا السياق، ينقل عن وزير المال علي حسن خليل انّ الدولة في امكانها ان توفّر للخزينة نحو نصف مليار دولار سنوياً اذا استعادت قطاع المحروقات واستوردتها من دولة الى دولة، كما كانت تفعل سابقاً.
ويؤكد القطب النيابي انّ الدولة ستتمكن من تأمين موارد بقيمة الف ومئتي مليار ليرة لتغطية خفض نسبة العجز المطلوبة لهذه السنة، وذلك من مجالات عدة لن يكون بينها أي حسم من رواتب الموظفين والمتقاعدين الذي سحب من البحث نهائياً.